الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

أحد الشعانين

الشعانين

في هذا اليوم المبارك، نعيّد للربّ الآتي لينقذنا من بهيميّتنا، ويرفعنا، بفصحه، إلى رحابة حرّيّة أبناء اللَّه. إنّه عيد التحرير، تحرير نفوسنا من كلّ ما يجعلنا أسرى الأرض وظلمها وظلامها. إنّه عيد استقبال المسيح ملكًا على حياتنا كلّها. ولتأكيد هذا، اختارت لنا الكنيسة نَصَّيْن من رسالة بولس إلى أهل فيلبّي (4: 4- 9) وإنجيل يوحنّا (12: 1- 18).

في افتتاح رسالة اليوم، يدعونا الرسول إلى أن نفرح بالربّ حقًّا. وهذه الدعوة تذكّرنا بأنّ الناس، الذين فرحوا بالربّ يوم دخوله أورشليم العاصيّة وهلّلوا جميعهم له، عادوا هم أنفسهم وأنكروه، وطالبوا بصلبه. الأمر الأوّل، الذي تريدنا الكنيسة أن ننتبه له، هو أنّ الفرح بالربّ يفترض، أوّل ما يفترض، أن نتحاشى نكرانه، وأن نقبله ملكًا علينا، ونمشي بصحبته "إلى أورشليم العلويّة" بثباتٍ كلّيّ. أي تريدنا ألاّ نردّد فقط بشفاهنا: "هوشعنا، مبارك الآتي باسم الربّ ملكُ إسرائيل"، بل أن يحكم ما نقوله أفكارنا وقلوبنا دائمًا. وهذه الصحبة، كما تظهرها الآيات الرسوليّة، غير ممكنة إن لم نعشْ حقيقةَ أنّ "الربّ قريب" في كلّ لحظات حياتنا. أي إن لم نعشْها في "الصلاة والتضرّع مع الشكر"، وفي "سلام" دائم مع اللَّه والناس. وإن لم نعشها بحبّ الفضيلة، أي بـ"العفاف والعدل والطهارة والصيت الحسن"، و"بجهد" يجعلنا نرجو مديح اللَّه في يومه، و"بحفظ المسلّمات"، وابتغاء قدوة القدّيسين ("وما رأيتموه فيّ، فبهذا اعملوا"). هذا التركيز على حبّ الفضيلة، كما هو مُبَيَّن، هو الذي يحيي فينا وعيَ أنّ "الربّ قريب"، فنحبّه، ونُخلص له، ونبتغي قربه دائمًا، والشهادة لمجد ملكه في العالم.

أمّا الإنجيل، فيخبرنا، في البدء، أنّ يسوع أقام لعازر من بين الأموات. وهذا أهمّيّته أنّه، هنا، يأتي في سياق التركيز على قدرة السيّد على قهر الموت. هذا يجب ألاّ يفوتنا في هذه الصحبة التي لن تنتهي بالصليب، بل بالقيامة، قيامة الربّ الذي سيقيمنا معه. ثمّ يروي لنا أنّ أهل المُقام من الموت قد أعدّوا وليمةً للسيّد، وكانت مرتا تخدم، ولعازرُ أحدَ المتّكئين معه. طبعًا، قد يحسب أحدُنا أنّ هذا التكريم هو تكريم طبيعيّ يستحقّه من أهدى هذه العائلة الحياة. وهذا صحيح. ولكنّ الكنيسة تريدنا، إلى جانب ذلك، أن نتعلّم، نحن أيضًا، من هذه العائلة الفَرِحَة، كيف نبقى مع الربّ، أو نُبقيه عندنا. فلعازر هو، واقعيًّا، كلُّ واحد منّا. والربّ يبقى في بيوتنا إذا استقبلناه على العشاء، وقعدنا إليه، وخدمناه. هذا كلّه من مقتضيات الصحبة الواجبة. ويبقى الربّ، خصوصًا، إذا اقتدنا بما فعلته مريم أخت لعازر. فهذه أخذت طيبًا كثيرَ الثمن، ودهنت قدمي يسوع، ومسحتهما بشعر رأسها. لن نسترسل كثيرًا في معنى هذا العمل. يكفي أن نرى فيه دلالة على الحبّ العميق. فالصحبة تفترض حبًّا، حبًّا يُظهر أنّك لا تبخل على السيّد بشيء. هل أرادت مريم، بما عملته، أن تشير مسبقًا إلى أن السيّد سيُظهر كرمَهُ علينا بموته عنّا، وأن تدعونا إلى نحاكي كرمه ببذلنا الغالي من أجله؟ ما جرى بعد هذا، يؤكّد ذلك.

باختصار، اعترض يهوذا السارق على ما فعلته مريم، وحجّته أنّ هذا البذل كان يمكن أن يُصرف على الفقراء. وكان كاذبًا. جواب يسوع كان أن "دَعْها، إنّها حفظته ليوم دفني". و"المساكين هم عندكم في كلّ حين". وهذا الجواب، في شقّيه، يؤكّد أنّ تكريمه إيّانا، بموته، ينتظر أن نقابله بتقديمنا أغلى ما عندنا له، وفي آنٍ لفقراء الأرض. فيجب أن نعرف، دائمًا، أنّ المسيح هو الفقير الدائم إلينا، إلى قربنا وصحبتنا. ونحن، إن أحببناه وابتغينا قربه حقًّا، نعرف كيف نحبّه هو شخصيًّا في مساكين الأرض. لقد استضاف أهلُ لعازر يسوعَ، لنتعلّم أن نستضيفه في كلّ مَن يحتاج إلى ضيافة. لقد استضاف أهلُ المُقام يسوعَ، لنعمل على أن نقيم الآخرين من كلّ موت. هذا يعني أنّ محبّتنا للسيّد يجب أن تكون هي أساس محبّتنا لمساكين الأرض الذين يهدّدهم الموت بوجوهه كافّة. ويجدر بنا أن نلاحظ أنّ يسوع، بما قاله، قد أصرّ على المحبّة الظاهرة، لكونه بيّن وسيبيّن حبّه لنا بسطوع كلّيّ. المحبّة ليست حكيًا، بل فعل.

ثمّ تأخذنا التلاوة الإنجيليّة إلى دخول السيّد أورشليم. وهنا تريدنا الكنيسة إلى أن ننتبه إلى أمرين. الأوّل أنّ ربّنا ركب جحشًا. وهذا، في تعليمنا، من مظاهر تواضعه العجيب (وهو الفضيلة التي لا يمكننا أن نحوز فضيلةً من دونها). الربّ لم يُرد أن يُخضع أورشليم بالقوّة. ولا يريد أن يخضعنا بالقوّة، بل بالفضيلة. قوّته القصوى هي فضيلته الظاهرة التي ترجو الكنيسة أن نفضّلها على وجودنا كلّه. والأمر الثاني أنّ هذا يحقّق النبوءات. فيسوع هو غاية كتب العهد القديم. كلّ ما جاء قبله ظلّ. هو الحقّ الذي يقيمنا في الحقّ. هو الكلّ الذي لا يُنكر.

هذا العيد هو عيدنا إن فهمنا معنى هذه الصحبة كما بيّنها نصّا الرسالة والإنجيل. فدعوتنا ليست أن نفرح بالربّ اليوم فقط، بل أن نُخلص له في حياتنا كلّها، ونقبل سيادته دائمًا. أي دعوتنا أن نتحرّر من كلّ بهيميّة، لنقدر على أن نمشي معه إلى مصيره، ليهبنا الحرّيّة الحقيقيّة التي تقيمنا في فصح دائم.

شارك!
Exit mobile version