أن يقوم بعض فتية ليقولوا إنّنا مكلَّفون إلهيًّا أن نقود أنفسنا وَمَنْ معنا إلى الله الحيّ أبدًا، هذا، لعمري، عجبٌ ليس مثلَهُ عجب. عجيب الله فعلاً، الله الذي شاء، بحكمته الأزليّة، أن يختار "غير الموجود"، ويتمّ قول الكتاب: "مَنِ افتخر، فليفتخر بالربّ" (1كورنثوس 1: 29- 31).
لن أتناول قصّةً أعرف أنّ كثيرين غيري قادرون على أن يرووها أحلى. فقط، سأعترف، (من دون أن أُحسَب أنّني أشير إلى خيرٍ فيَّ ما زال لحمي ودمي يعاندانه)، بأنّ ما جرى في تاريخنا الحديث، منذ أن مَنَّ الله علينا بأن ننهض إلى وعي حبّه، يأخذ بمجامع قلبي. يصيبني باندهاش كلّيّ. يفرحني فرحًا لا يوصف. يجعلني أؤثر، بحرّيّة مطلقة، أن أسرع الخطى، أنا الذي تركت الكهولة ورائي، لأتسلّق تلك الجميّزة عينها التي سبقني إليها آخر، وأرى، بأمّ عينيَّ، ابن الله يمشي على طرقاتنا، يدعونا إلى أن نربط مصيرنا بمصيره. هل تُراني أتجاوز، إن رأيتُ الله في جماعة أضناها الوَلَه؟ هل أغيِّر قول الكتاب، فأفتخر ببشر؟ إن كان ربُّنا قد شاء أن يرتدي ترابنا، فنحن لا شيء إن لم نتيقّن أنّه باقٍ فينا أبدًا.
جماعة أضناها الوَلَه. فهذا الإله الحيّ، قالت جماعة النهضة إنّه أحبّ العالم أوّلاً. وثقتي بأنّ هذا، فحسب، كلّ ما أرادت تبليغه عبر سنواتها كلّها. كلُّ الخطب الملهبة، كلُّ الصفحات المنيرة، كلُّ الكلمات التي قيلت إن همسًا أو علنًا، كلُّ دمعةٍ سقطت أو فرحٍ سطع، كلُّ خير أُنجز ويُنتظَر أن يُنجَز، إنّما أنجبه أنّ الله قد "أحبّنا أوّلاً" (1يوحنّا 4: 19). فالله، الذي قال كلّ شيء عندما أرسل ابنه الوحيد و"جاد به لكيلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يوحنّا 3: 16)، أشار إلى الذين فهموه أن يردّدوا. لا يستطيع أحد أن يزيد شيئًا على ما عمله الله من أجل خلاصنا. "لا يستطيع أن يضع أساسًا غير الموضوع".
ربّما يعترض قارئ على ما يقرأه هنا، ويدفعه اعتراضه إلى أن يسأل: "إذًا، أين الجديد في ما أتى به التيّار النهضويّ؟". وجوابنا أنّ الحركيّين لم يدّعوا، يومًا، أنّهم قد أتوا بأمر جديد. كلّ ما فعلوه أنّهم أخذوا هذا الجديد البرّاق، ورموه على واقعٍ يعوزه.
هل ما زلت أفتخر ببشر؟
أمّا الله، فيأمرنا بأن نأتي من خلاصه المستمرّ، من محبّته الغنيّة والمحيية. وهذا ما يجب أن يكون لسان حالنا: أن نفتح عيوننا وقلوبنا على محبّة الله، وندلّ عليها وحدها. مَنْ أناروا قلوبنا، ما زال صوتهم يصرخ فينا:
"إيّاكم، ثمّ إيّاكم، أن تحفظوا محبّة الله في خزائن الماضي، وتقفلوا عليها، وترموا المفتاح بعيدًا منكم. إن فعلتم، تموتون بردًا وضياعًا. "تصيرون دمارًا وحديثًا وسخريّة" (تثنية الاشتراع 28: 37)). فالحقّ، كلّ الحقّ، أن تحيوا بذاك الذي أحبّكم أوّلاً، ويرى كلٌّ منكم نفسَهُ فيه إنسانًا جديدًا. ربّما ثمّة مشاكل، تضربكم، تجعل بعضكم يتلهّون عن بوح الحقّ. ارموا كلّ مشكلة على مَنْ بيده، وحده، حلّها. هيّا، افعلوا الآن. واطفروا أنتم كما تطفر الأيائل. فالمحبّة، التي خصّكم الله بها، هي عرس دائم. فغنّوا، وارقصوا. هل تذكرون ذلك الفتى الذي شطر نفسه عن أبيه، ثمّ عاد إلى نفسه ثمّ إلى أبيه (لوقا 15: 11- 32)؟ كان لعودته ابتهاج العرس. أما قرأتم أنّ أخاه الأكبر، عندما عاد إلى البيت واقترب من دارهم، "سمع غناءً ورقصًا"؟ كلّ مَنْ يقترب من دار الله، أو كلّ مَنْ ساهمتم في اقترابه، يجب أن تملأ أذنيه أصواتُ أفواهكم وأيديكم وأرجلكم. عيشوا كما لو أنّكم في عرس، وادعوا الناس إلى العرس. لا تقبلوا أحدًا بعيدًا. هذه انطلاقة خاطئة. لا تسمحوا لأحد بأن يقول عن نفسه ما قاله شاعر عربيّ: "لا أعرف أين أمضي هذه الليلة / وكلّ ليلة / الأرصفة التي أعبرها / تلفظ خطواتي كالدواء المرّ / الجدران التي المسها / ترتعش، تحت أصابعي، كالشفاه قَبْلَ الزئير / أحسد المسمار / لأنّ هناك خشبًا يضمّه، ويحميه". الناس يحتاجون إلى مَنْ يضمّهم، ويردّ عنهم شرّ الأذى. وإن لم تكن لمعظمهم جرأة الشعراء، ليُقِرُّوا بذلك، فثقوا أنتم بأنّهم يحتاجون. ثقوا، ثقوا بأنّكم، إن لم تحبّوا كلّ إنسان، أيًّا كان، لا تكونوا قد فهمتم أنّني أحببتكم. أحبّوا، تزهر صحارى أرضكم، وتنبت عنبًا وزيتونًا".
أن نثق بأنّ الله أحبّنا أوّلاً، لهو، لعمري، برنامج حياة دائم، خارطة طريق إلى القلب الذي لم يطلب الله منّا سواه. "فيا بُنيَّ، أعطني قلبَكَ" (أمثال 23: 26)، كلماتٌ تخترق الأزمنة والأمكنة لاهثةً، فقيرةً، تستجدي أن يُصغي الناس إليها، لتغيّر طاعتها الكون، وتصنع كلّ شيء جديدًا. وهذه الكلمات عينها ارتضى الربّ، بتواضعه العجيب، أن نذكرها، ونذكّر بها، ما حيينا. أرادنا أن نتعطّر بها، ونرميها على طرقات الناس، في أزقّتهم، وفي البيوت التي سيّجها النسيان، ليفطن كلّ مَنْ تنقصه فطنة أنّ الله، الذي أحبّنا أوّلاً، ما زال يطلب ودّنا.
عندما قال القدّيس غريغوريوس بالاماس إنّ أشنع خطيئة هي عدم الإحساس بالقيامة، كان، كما يجب فهمه، يريد عدم الإحساس بأنّ الله قد أحبّنا أوّلاً. فكيف نبقى على وعي أنّ الله خصّنا بحبّه أوّلاً؟ هذا ما يجب أن يسكن أفئدتنا في حلّنا وترحالنا، ومتى عصفت بنا الشدائد، وكلّما التقينا، وكلّما أردنا أن نقول شيئًا لأنفسنا، أو لِمَن يعرف، أو لِمَنْ صدأت أذناه من افتقارها إلى سماع كلمة الحقّ، لنحيا، معًا، أنّ الله أحبّنا أوّلاً، ويحبّنا دائمًا.
هذا هو تكليفنا وحياتنا وافتخارنا أبدًا.