11سبتمبر

أبناء الكلمة

            "أستحلفكم بالربّ أن تُقرأ هذه الرسالة على الإخوة أجمعين".

            بهذه الكلمات، يختم بولس رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي (5: 27). وإن عرفنا أنّ هذه الرسالة هي أوّل نصّ كامل وُضع في العهد الجديد، فيمكننا أن نتبيّن أنّ أعلى ما يعني الرسول فيها أن يدرك كلّ عضو، في هذه الجماعة الفتيّة (وكلّ جماعة في غير جيل)، أنّ التعليم القويم إنّما يخصّه شخصيًّا.

            إذا قرأنا هذه الرسالة بكمالها، فلا يفوتنا أنّ واضعها أراد أن يعبّر فيها عن فرحه بما وصل إليه من أخبار سارّة عن هذه الجماعة الناشئة، ولا سيّما إيمانها الحارّ بمجيء الربّ ثانيةً عن قريب (5: 1- 11). إنّنا نسمعه يكلّم المؤمنين، باغتباط أبويّ ظاهر، على حُسن إخلاصهم لِما قاله لهم علنًا أو في سرِّ خلواتٍ تنبض بالكشف. ولا يشدّد عليهم في سوى أن يستمرّوا على ما هم عليه من خير، ويزدادوا تقدّمًا في سيرة ترضي الله (4: 1)، وفي محبّتهم الأخويّة التي تعلّموها من الربّ (4: 10)، وشهادتهم لله أمام مرأى مَنْ هم "في الخارج" (4: 12)، وإكرامهم مَنْ يسهرون عليهم، ونصحهم بعضهم بعضًا، وعضدهم الإخوة الضعفاء، وصبرهم على جميع الناس، وزرعهم الخير والفرح دائمًا، وصلاتهم المستمرّة، وعدم إخمادهم الروح وازدرائهم النبوّات، وتفحّصهم كل شيء وتمسّكهم بما هو حسن، وتجنّبهم كلّ نوع للشرّ (5: 12- 23).

            أمّا الآية الختاميّة التي بنينا عليها هذه السطور، فتكشف، بوضوح جليّ، أنّ ما كتبه الرسول يريده أن يُقرأ في اجتماع العبادة الذي كانت إقامته قد ثبتت في كلّ يوم أحد (قابل مع: أعمال الرسل 20: 7). فقراءة الكلمة هذا مطرحها الأغلى. ويكشف، تاليًا، أنّ المؤمنين، في كنيسة تسالونيكي، كانوا يلتزمون "اجتماعهم"، أي لا يتغيّب أحدهم عنه. فقوله أن تُقرأ الرسالة "على الإخوة أجمعين (وفي تعريب آخر، تزاد لفظة: القدّيسين)" يظهر جدّيّة التزامهم اجتماع العبادة. ويلفتنا، في ما اقتبسناه من فمه، أنّه يدعو أعضاء الجماعة جميعهم "إخوة". وهذه اللفظة لا تستثني الرعاة الذين ذكر أنّهم يسهرون عليهم (5: 12). فكلُّ أعضاء الجماعة واحدٌ أمام كلمة الله. الكلّ واحد، أي الكلّ إخوة، أي أقرباء المسيح الذي هو أخونا الكبير، أي أولاد لله الذي تبنّانا بنعمة روح ابنه (غلاطية 4: 4- 7). ويجب أن نستنج من هذا الطلب أنّ الرسول ينتظر أن يُصغي أعضاء الجماعة إلى ما وضعه بانتباه عظيم (عبرانيّين 2: 1)، وتاليًا أن يعين القويّ فيها مَنْ كان جديدًا أو ضعيفًا. فالإصغاء إلى الكلمة من شروطه العليا أن تسعى الجماعة كلّها إلى أن "تأسر كلّ ذهن، لتهديه إلى طاعة المسيح" (2كورنثوس 10: 5)، "بالقول والعمل" (رومية 15: 18).

            هذا، طبعًا، يدلّنا على أنّ حياة الجماعة تكوّنها الكلمة التي تُقرأ في اجتماع العبادة. فالقراءة، التي ينتظرها الرسول، قراءة ممدودة، إن انطلقت من مكان محدّد، فلا تُحصر به. بكلام واحد، يطلب الرسول قراءةً تمشي، أي أن تكون الكلمة مرآة حياة مَنْ تُتلى على مسامعهم. ويمكننا أن نعرف أنّ مَنْ يخاطبهم، ويريدهم أن يُصغوا إلى كلماته، أشخاص لهم ما يعملونه في الدنيا. يريد الكلمة، فيما يتعاطى المؤمنون أمور دنياهم (عملهم وتربية أولادهم وما إليهما)، "قريبةً من أفواههم وفي قلوبهم" (رومية 10: 8). الكلمة لا تفصلنا عن حياتنا، بل هي حياتنا الجديدة في كلّ ما نعمله من خير. فما يحكم إصغاء الجماعة في أوان اجتماعها، يطلب الرسول أن يحكمها في حياتها معًا. ثمّة صورة للجماعة لا تفوقها أيّ صورة أخرى، وهي أنّها تتعاون، في حياتها اليوميّة، على طاعة كلمة الله. وهذا، لا يتطلّب، بالضرورة دائمًا، تذكيرًا بها لفظيًّا. فأحيانًا، أو في معظم الأحيان، يكفي أن يسير المؤمن سيرةً كريمةً، توافق حقّ الكلمة، حتّى يذكّر بها. فالكلمة "روح وحياة" (يوحنّا 6: 63)، بمعنى أنّ الروح ينطقها في حياتنا أيضًا.

            ثمّ يجب أن نرى، في هذا القول، أنّ الملتزم كنيسته إنّما يبني شهادته، في الأرض، على ما يُقرأ في اجتماع العبادة. هذه الدعوة الجماعيّة إلى قراءة الرسالة تُظهر أنّ المؤمن الحقّ هو مَنْ لا يخجل من بوح الكلمة أمام مَنْ هم "في الخارج". فإذا كان المسيحيّ شاهدًا لله، وهذا ما يجب، فهو يشهد لما يُتلى عليه في أوان العبادة. ليس المسيحيّ شاهدًا لأيّ فكر آخر في الأرض. وهذا، إذا أخذنا ما نراه في زماننا الحاضر، يفضح لا سيّما هذا التأخّر المريض عن اجتماع العبادة الذي تعوّده بعض من دون حرج!، أي القفز فوق الكلمة وتوزيعها في القدّاس الإلهيّ. ويفضح، تاليًا، كلّ صمت كسول ومتواطئ، وكلّ لغوٍ فارغ، وكلّ الخطايا التي تسرح وتمرح في بيوتنا وشوارعنا، أي يفضح البشاعة التي تُظهرنا لا نشبه جمال الكلمة!

            هل يمكننا أن نرى، في قول بولس، إشارةً إلى دوام قراءة الكلمة، أي إلى قراءتها قراءةً شخصيّةً يوميّةً في بيوتنا؟ أعتقد ذلك. فالمؤمن يحيا بموجب اجتماع العبادة. هذا قانون حياته. وهذا يعني أنّ الرسول يدعونا إلى أن تكون قراءتنا الشخصيّة قائمةً على القراءة الجماعيّة. فالكلمة، التي تخصّنا جميعنا، (أي لا تخصّ واحدًا من دون سواه)، لا تحتمل، أيضًا، فهمًا فرديًّا يشوِّه معناها المسلَّم. كلّ قراءة صحيحة تحكمها قراءة جماعيّة هدفها الأعلى أن نتبيّن أنّنا أبناء الكلمة (عبرانيّين 12: 5).

            لقد أثّرت هذه الآية الرسوليّة في حياة الكنيسة، ودفعتها إلى أن تُدخل مقاطع وضعها بولس في غير اجتماع عباديّ تقيمه. يبقى أن نلزم، نحن المؤمنين اليوم، أنّ كلمة الله إنّما هي حياتنا وشهادتنا.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content