24يونيو

أبانا

            لا نريد، في شرح هذا النداء، أن نخرج عن الخطّ الذي رسمه التراث الأرثوذكسيّ، وأعني تأكيده القاطع أنّ الله هو فوق كلّ كلام وأبعد من أن تحبسه تحديدات ومفاهيم. "فإله يمكن إدراكه ليس هو الله". وهذا يعني أنّ إلهًا نزعم أنّنا نقدر على فهمه، عقليًّا، بصورة كاملة، هو إله من اختراعنا، وليس هو الإله الحقيقيّ. غير أنّ هذا لم يمنع تراثنا من أن يؤكّد أيضًا، وفي السياق عينه، أنّ الله الذي لا يسعه مكان أو زمان ولا يمكن وصفه أو رؤية جوهره، هو إله شخصيّ، ومعرفتنا له تحدّدها كشوفاته في التاريخ، وتاليًا إيماننا به ومحبّتنا إيّاه. وذلك بأنّ الإيمان ليس هو، في جوهره، حقيقة منطقيّة، بل علاقة شخصيّة وتسليم كامل لمَن تنازل، وبذل دمه حبًّا بنا.

            سنحاول، إذًا، بنعمة الله، انطلاقًا من تنازل يسوع ابن الله الوحيد الذي سمح لنا بأن ننادي أباه: "أبانا"، أن نكتشف - في زمن شيوع اليتم وزوغان الضمير عن المحجّة - عمق هذا النداء الذي يحمل كلّ حقيقة الله، ويبيّن، تاليًا، أسس علاقة البشر بعضهم ببعض.

            والواقع أنّ بعض الآباء القدّيسين، ومنهم: مكسيموس المعترف وديونيسيوس السوريّ المنحول ويوحنّا الذهبيّ الفم...، أطلقوا لفظة "أبانا" على الثالوث القدّوس. فالنداء، في مداه الأوّل، يدلّ، آبائيًّا، على العلاقة التي تربط الله المثلّث الأقانيم، وهو، تاليًا، يدخلنا عمق معرفته. وليس هذا فقط، وذلك بأنّ نداء "أبانا" لا يضعنا في خطّ عموديّ حصرًا، لكن أفقيّ أيضًا، أي أنّه لا يدلّنا على هذه العلاقة الثالوثيّة أو يطلب منّا اعترافًا بأنّ الله هو أبو يسوع أزليًّا فحسب، بل، أيضًا، على كون الله هو أبا جميع البشر، وأنّ ارتباط البشر بعضهم ببعض هو، بيسوع المسيح، ارتباط أخويّ. يقول ثيودورس أسقف المصّيصة في مقدّمة شرحه الصلاة الربّيّة: "لذلك عليكم أن تقدّموا ما يجب لا للآب فقط، بل عليكم أيضًا أن تسالموا بعضكم بعضًا أنتم الأخوة، وجميعكم في قبضة يد أب واحد". ويؤكّد القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، في تعليقه على هذا النداء، هذا الكلام، بقوله: "وعلاوةً على ذلك، يعلّمنا (يسوع في الصلاة الربّيّة) أن نجعل صلاتنا مشتركة، لمصلحة أخوتنا أيضًا. إذ لا يقول (المؤمن): "أبي الذي في السماوات"، بل "أبانا" مقدّمًا تضرّعاته من أجل الجسد المشترك، غير ناظر قطّ إلى مصلحته الخاصّة، بل إلى مصلحة قريبه في كلّ مكان".

            يختصر هذان البعدان (العموديّ والأفقيّ) كلّ الحياة المسيحيّة ومتطلّباتها. فالله، الذي يطلب "قلب" الإنسان، يرفض رفضًا قاطعًا أن يختزل المسيحيُّ البشرَ أخوتَهُ بالعرق أو الطبقة أو الجنس أو الدين أو المذهب أو الثقافة، أو أن يميّز بين البارّ والخاطئ (برأيه طبعًا). وذلك بأنّ كلّ إنسان، هو مخلوق "على صورة الله"، والله، تاليًا، أعطى جميع البشر، بابنه يسوع، نعمة البنوّة، أي وهبهم أن يصيروا "أبناءَ الله". وربّما أعمق ما يذكّرنا به نداء "أبانا"، في سياق هذين البعدين، هو أنّ كلّ صلاة، في عمقها ومداها، هي صلاة جماعيّة. فالذي يصلّي، وحده، في صومعته أو غرفته... هو يصلّي إلى الإله أبي الجميع، وتاليًا كعضو في عائلته (الكنيسة). ويريده الربّ أن يعي ارتباطه بإخوته وبكلّ إنسان في العالم، وأن يفعّل التزامه، فلا يكون بعيدًا أو "متفرّجًا". هذا ما يدلّنا عليه نداء "أبانا"، وبعد.

            لا يريدنا يسوع، فيما نخاطب الله، أن نكلّمه بمنطق العهد القديم الذي لم يخلُ من الاعتراف بحنان الله على أولاده (أنظر: خروج 4: 22؛ تثنية 32: 6، إشعيا 63: 8…؛ حكمة 3: 9 و5: 5). وذلك بأنّ العهد الأوّل، الذي أعطي في سيناء، يلد العبوديّة (غلاطية 4: 24)، وجميع الذين أخضعوا لشريعة الناموس كانوا عبيدًا (أفسس 2: 15). لكنّه يريدنا أن نعرف، أو أن نقبل، أن يقودنا روح الله إلى معرفة كوننا "أبناء الله" المدلّلين، وأن ننادي الله بالطريقة عينها التي كان الأطفال الآراميّون يلفظونها فيما كانوا يتدلّلون على آبائهم، أي: "أبّا" (أو كما نقول بلغتنا: "بابا"). لقد نقلنا يسوع، الذي يحقّ له وحده أن يخاطب أباه ببساطة كلّيّة وألفة حميمة (متّى 11: 25، 26: 39؛ مرقس 14: 36، 15: 34؛ لوقا 10: 21، 23: 46...)، (نقلنا) ، بنعمة روحه القدّوس، من حالة الخوف والبعد والجهل، وقرّبنا من الله أبيه، وأعطانا أن نناديه بجرأة الأطفال (بابا) من دون أن تطالنا دينونة (كما تدعونا خدمة القدّاس الإلهيّ). وهذا ما أكّده أحد آباء الكنيسة في القرن الخامس تعليقًا على ما قاله الرسول بولس في رسالته إلى كنيسة رومية، وهو: لأنّكم "لم تتلقّوا روح عبوديّة، لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي: أبّا، يا أبت! وهذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنا بأنّنا أبناء الله" (أنظر: 8: 14- 16)، إذ قال: "حين أضاف الرسول لفظة "أبّا" علّمنا معنى الثقة التي يتّصف بها أولئك الذين تعوّدوا أن ينادوا الله هكذا. وفي الواقع، الأولاد وحدهم يتعاملون مع آبائهم بحرّيّة كبيرة...، فيستخدمون غالبًا هذه اللفظة في التحدّث إليهم".

            عندما نصلّي: "أبانا"، يجب أن نفكّر في وحدة الحياة التي لنا مع الله في المسيح يسوع بالروح القدس، وأن نفكّر، تاليًا، في أنّ هذا النداء لا يكون نداءنا حقًّا ما لم نسمح للروح الذي حلّ في قلوبنا بأن يفيض فينا المحبّة الحقّ للبشر جميعًا، ونقبل أن نكون أداة الشهادة التي ينيرها هو (أي الروح) ويقودها في العالم (رومية 5: 5).

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content