24يونيو

أبانا الذي في السماوات

            لا تعني عبارة "أبانا الذي في السماوات" أنّ الله ليس موجودًا في الأرض، أو كما نقول في طقوسنا "في كلّ مكان" (أو أنّه، بمعنى آخر، محدود في مكان). المسيحيّة الشرقيّة ذهبت إلى أبعد من هذا التصريح. ففي تعليمها، المتعلّق بالتجسّد خصوصًا، أكّدت أنّ كلّ مسافة أو فرق بين الأرض والسماء، أو ما هو فوق وما هو تحت، أُلغي في المسيح يسوع. ولعلّ الكلام، الذي تورده كتبنا المقدّسة فيما تربط بين التجسّد ونهاية الزمان (غلاطية 4: 4؛ عبرانيّين 1: 2)، خير تعبير عن أنّ كلّ شيء قد "ابتلع" في المسيح يسوع. فيسوع هو، وحده، في هذا الدهر وفي الدهر الآتي، "المكان" (إذا جاز التعبير) الذي يتجلّى فيه الله المثلّث الأقانيم، ويظهر للذين قبلوا حبّه وسيادته. وهذا يمكن توضيحه بتأكيد آخر، وهو أنّ الله، الذي هو في جوهره "غير مدنوٍّ منه" (قد يكون هذا التعريف هو أحد أهمّ معاني عبارة "أبانا الذي في السماوات")، هو إله محبّ (أنظر: إنجيل يوحنّا ورسائله). فالمحبّة هي التي تبسط حقيقة الله الأزليّة وكلّ عمله الخلاصيّ في التاريخ. وهذا يعني أنّ قلب الإنسان هو مسكن الله الحقيقيّ. "إنّ ملكوت الله في داخلكم"، يقول يسوع (لوقا 17: 21). وحسبنا أنّ كلامه الوارد في إنجيل يوحنّا يوضح ما نريد قوله هنا، وهو: "إذا أحبّني أحد حفظ كلامي فأحبّه أبي ونأتي إليه فنجعل لنا عنده مُقامًا" (14: 23). فالقلب البشريّ هو، في العمق، سماء الله الحقيقيّة. وما سنقوله في ما يلي هو تفصيل لهذه الثوابت.

            يعرف العارفون أنّ عبارة "الآب الذي في السماوات" كانت، في التقليد العبريّ، في زمن يسوع، تدلّ - رغم ندرة استعمالها - على تسامي الله وتعاليه، وبآنٍ على قدرته وسلطانه في الأرض وعلى "كلّ الساكنين فيها" (مزمور 24: 1). ولا يخفى أنّ محرّري العهد القديم أبدوا تحفّظًا واضحًا في استخدام لفظة "أب" للدلالة على الله، وذلك خلافًا لديانات الشرق الأدنى القديم التي الآلهة، في أساطيرها، آباء من طريق الإنجاب. الله، في العهد القديم، هو "أب"، ولكن من طريق الاختيار (اختار الله إبراهيم ونسله). وهذا الاختيار يبيّن محبّته وحمايته شعبَهُ، ويفترض، تاليًا، طاعة الشعب وأمانته لله. والعبرانيّون، في كلّ حال، ما كانوا يجترئون على التلفّظ باسم الله أو مناداته بدالّة في صلواتهم الشخصيّة (فهذا عندهم يسيء إلى تسامي الله). أمّا يسوع ابن الله الوحيد الذي أتى ليحرّرنا من العبوديّة، وينتشلنا من كلّ بعد وجفاف وخوف، فقد علّم أتباعه أن ينادوا أباه بحرّيّة ودالّة: "أبانا الذي في السماوات". وذلك بأنّه أراد أن يكشف أنّ الله هو أب حنون ومترئّف لا بإسرائيل فحسب، لكن بالبشر جميعًا. لقد فتح يسوع باب الملكوت لجميع البشر، وألغى كلّ مسافة وعرق وجنس ولغة، لأنّ السماء لا تظلّل أناسًا من دون غيرهم، وأكّد، تاليًا، أنّ ما يطلبه الله من البشر جميعًا هو أن يثقوا برحمته وقدرته، وأن يحيوا أخوة مع البشر كافّة.

            هذا ابتكار ابن الله المتجسّد الذي يمكّننا من فهمه وقبوله الروح القدس الذي نلنا مواهبه في المعموديّة. فالروح، في الأخير، هو الذي يعطينا أن نعرف الله أبًا، وأن نكتشف قوّة الخلاص الذي تمّ من أجلنا، "ونوجّه حياتنا وجهة تتعالى عن حدود الأرض"، فنرتقي بمحبّته إلى السماء.

            و"السماوات" موطن المؤمنين، ومنها ينتظرون "مجيء المخلّص الربّ يسوع المسيح الذي سيغيّر هيئة جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد..." (فيلبّي 3: 20 و21). يقول ثيودورس أسقف المصّيصة في شرحه هذه الصلاة: أريدكم (أعضاء كنيسته) أن تقولوا أبانا الذي في السماوات "حتّى تتمثّل أمام عيونكم، في الدنيا، الحياة السماويّة حيث أُعطي لكم أن تنتقلوا يومًا. فإنّكم - وقد نلتم التبنّي - صرتم مواطني السماء. أجل، هذا هو المقرّ اللائق بأبناء الله". وهذا أحد أهمّ أبعاد الإيمان المسيحيّ. وذلك بأنّ المسيحيّين، الذين يرتبطون ارتباطًا صميمًا بمَن "يسكن في النور الذي لا يدنى منه" (1تيموثاوس 6: 16)، هم يعيشون، في الأرض، بموجب قانون موطنهم الحقيقيّ (السماء) الذي هو في قلوبهم. ولا يعني هذا أنّ المسيحيّين يحتقرون العالم أو ينفصلون عنه، لكن أنّهم في العالم وليسوا منه، وأنّ خصوصيّتهم تكمن في رسالتهم وفي كونهم، وهم في حيّز هذا الوجود، يعبدون "الآب الذي في السماوات" بإخلاص كلّيّ لا يشوبه تقاعس أو غشّ، إخلاص يفسّره إيمانهم وطاعتهم، وتاليًا رفضهم كلّ إغراء يصدر عن إبليس أو عن الذين يتبعونه.

            فيا "أبانا الذي في السماوات"، أعطنا أن نفهم حبّك وتنازلك وتعاليك، لئلاّ نحتجزك في الأرض، ونقفل عليك، فنقفل، حينئذٍ، على حالنا. هبنا روحك القدّوس، لنعرف أنّك، وحدك، في قلبنا مالكًا، وأنّنا، بابنك الحبيب، ارتقينا، وارتقى العالم كلّه، من الأرض إلى السماء.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content