"ليست المسيحيّة إلاّ قوّة الله عندما تُضطهَد في العالم، ويتّجه ضدّها مقتُ البشر"
(القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ)
كلّ اضطهاد ناله أتباعُ الربِّ في الماضي، وينالونه في الحاضر، ويمكن أن ينالوه في المستقبل، لا تمكن مقاربته إلاّ على قاعدة واحدة، وهي أنّ مَنْ يُضطهَد إنّما هو يسوع ربّنا، أو، بكلام آخر، هو حبُّه والإخلاص له. فالعالم عدوّه واحد. وإن اخترتَ أنت هذا الواحد إلهَكَ، فانتظر أن يظهر العالمُ عداءه له فيك أيضًا. كثيرًا ما أثارني قول الرسول: "فجميع الذين يريدون أن يحيوا حياة التقوى في المسيح يسوع يضطهَدون" (2تيموثاوس 3: 12). وكنتُ، أمامه، أسأل نفسي: لِمَ؟! لِمَ يجب أن يعاني المسيحيّون الأمرَّين في العالم؟ ولكنّني، يومًا فيومًا، أخذني يقين ثابت أنّ ما يستقبحه العالم ليس بشرًا انتسبوا إلى المسيحيّة انتسابًا برّانيًّا، بل "حياة التقوى في المسيح". ما يستقبحه هو قلوب باتت، بحلول الربّ فيها، "سماءً على الأرض". العالم لا يتحمّل أن يرى مَنْ رفعه على صليب العار حيًّا في القلوب، ولا يمكن أن يتحمّل. ولذلك شأن الربّ أن يُرفَض في عالمٍ لا يريده حيًّا ومحييًا.
بهذا المعنى، وعدنا يسوع، في غير موضع، بأن يصيبنا ما أصابه. إذ قال لتلاميذه، (ولنا نحن أيضًا)، فيما كان يكلّمهم على الذين يأكلون لَحْمَهُ زورًا: "ما من تلميذ أسمى من معلّمه" (متّى 10: 24). وقال لهم في موضع آخر: "إذا اضطهدوني، فسيضطهدونكم أنتم أيضًا" (يوحنّا 15: 20). لكنّ هذا الوعد، الذي يشكّل عصب الانتساب إلى مسيح الله، لا يستقيم فهمه إلاّ على القاعدة الثابتة التي أنشأنا عليها هذه السطور. بلى، ثمّة إغراء قاتل يتبع الذين ينتسبون إلى الربّ، وهو أن يعتبر أحدهم نفسه موضوع الوجود. وهذا إغراء قد يسهل قبوله كثيرًا، ولا سيّما في أوان المحن. من حيث إنّ الخطر الذي يداهمك، متى شعرت بأنّ الناس يرفضون إلهك، أن تعتبر أنّك أنت موضوع الرفض.
عندما ردّ الرسول، في رسالته إلى أهل غلاطية، على الذين كانوا يلزمون الآتين من الأمم أن يتهوّدوا قَبْلَ أن يدخلوا كنيسة الله، قال إنّهم يفعلون، "ليأمنوا الاضطهاد في سبيل صليب المسيح" (6: 12). لم يقل الرسول "في سبيل المسيح" (على كون هذا القول كاملاً)، بل أوضح ببلاغة لا تحتمل تأويلاً: "في سبيل صليبه". وهذا قاله، ليبيّن أنّ المسيح هو هو الإله المرفوض أبدًا، وأنّ هذا هو، واقعيًّا، السبب الذي يجب أن يدفعنا إلى أن يكون قرارنا أنّنا له وحده، مهما كلّفنا هذا القرار. كلّ أمر آخر ناقص أمام إله يبدو، في صلبه، أنّه ضعيف وناقص!
نحن نحيا في زمان يستقبح أناس كثيرون فيه إلهنا الوحيد. وليس من نهج، لِمَنْ تتساقط عليهم نتائج هذه الاستقباح، سوى أن يفطنوا إلى أنّ العالم عدوّه واحد، ليدلّوا، باتّباعه، دلالةً ثابتةً على استقامة الحياة في المسيح. فنحن يجب أن نذكّر أنفسنا، باستمرار، بأنّ دعوتنا أن نحسب أنفسنا لا شيء وأنّ الربّ هو، وحده، كلُّ شيء. وفي الواقع، إن حسبت أنت نفسك لا شيء، يهون عليك أن تُرفض (وهل يعتبر نفسه مرفوضًا مَنْ يقتنع بأنّه لا شيء؟). إن حسبتَ أنّك لا شيء، تتحدّى كلّ وجود واهم، تقلب المقاييس. فالربّ شفى العالم فيما كان العالم يرفضه. إنْ علّى المسيحيّون كرامتهم وحقوقهم، وإن سقطوا في فخّ الدفاع عن أنفسهم في وجه مَنْ يحسبون أنّهم يظهرون لهم العداء، أو يعادونهم فعلاً، يخرجون أنفسهم عن تكليفهم. وتكليفهم أن يعبّدوا درب الخلاص لِمَنْ يحيون معهم وإليهم. فالعالم، كما يبدو، لن يسالم كلّه مسيح الله يومًا. وأنت تأتي من هذا الواقع، لتعرف ما ينتظره الله منك في الدنيا. لست في الدنيا موجودًا، لتدافع عن نفسك وكرامتك. أنت موجود، فقط، لتشهد لمسيح تؤمن بأنّه، وحده، ربّ الوجود.
سيبقى أتباع يسوع الحقيقيّون يخصّون بثمرة قلوبهم إلهًا مضطَهدًا يؤمنون بأنّه هو، وحده، "ربّ المجد" (1كورنثوس 2: 8). وسيبقى تكليفهم الثابت أن "يباركوا الذين يضطهدونهم" (رومية 12: 14)، حتّى يستحقّوا أن يرجوا أن تنقذ بركة الله مَنْ أسرته اللعنة، وينضمّ إلى إله شاء عزّته أن يشفي العالم بضعفٍ باقٍ إلى الأبد "أوفرَ قوّةً من الناس" (1كورنثوس 1: 25).