لعبارة العشّار: "اللَّهمّ، ارحمني أنا الخاطئ" (لوقا 18: 31) منزلة رفيعة في الروحانيّة الشرقيّة. إنّها سيّدة العبارات في صلواتنا جملةً، والملكة على قلوب المؤمنين التي لم يطلب الله منّا سواها (أمثال 23: 26). وهذه العبارة تتردّد، في العهد الجديد، على غير لسان إن باختصار، أو بصيغ أخرى. فنسمعها، مثلاً، من فم عميان (متّى 9: 27، 20: 30؛ لوقا 18: 38)، وامرأة كنعانيّة (متّى 15: 22)، وأبي ولد مصاب بداء الصرع (متّى 17: 15)، ورجال برص (لوقا 17: 13). ماذا يعني أنّ الربّ رحيم؟
إذا استلهمنا تراثنا، لا نشكّ في أنّ من معاني الرحمة أن أثق بأنّ الله قادر على أن يمحو خطاياي التي أنا أعيها، وأريد التخلّص منها. فارحمني (أنا)، تعني أنّني أعي ضعفي وحاجتي إلى الله في آن. إذ لا يكفي أن نعتقد، كما معظم الناس، أنّ الله رحيم بمعنى أنّه يمحو ذنوبنا من دون أن يتضمّن هذا المعنى إقرارًا بدناءة الخطيئة، وتعهّدًا بعدم الوقوع فيها من جديد. أن نقول إنّ الله رحيم بهذا المعنى الذي يجعلني واثقًا بأنّه يقبلني كما أنا، أي من دون أيّ نيّة في التغيير، أمر يسيء إلى حقّ الله وما يقدّمه لنا حبًّا. فشأني، إذا طلبت إلى الله أن يرحمني، أن أعي ما أريد منه فعلاً، لأسلك بموجب عطاياه إنسانًا سويًّا.
هؤلاء الناس المتنوّعون، الذين أسمعونا أصواتهم العذبة في ما اقتبسناه من العهد الجديد هنا، يساعدونا على أن نعرف ماذا يقدّم الله لنا إن طلبنا رحمته. فإذا عرفنا أنّ العشّار شخص منبوذ يكرهه أهل جنسه لكونه عميلاً عند الأعداء، فيكون طلب الرحمة يعني أنّني أنتظر من الله أن يغيّر حياتي بما يوافق حقّه. وإذا كان العميان فاقدي البصر، فيكون أنّني أطلب رؤيةً جديدةً، "عينًا بسيطةً" تساعدني على أن أميّز النور من الظلمة والحقّ من الباطل. وإذا كانت الكنعانيّة امرأةً غريبةً عن شعب الله، فيعني أنّني أطلب أن أكون من خاصّته. وإذا كان المصاب بداء الصرع شخصًا لا يثبت على نيّة ("كثيرًا ما يقع في النار وكثيرًا ما يقع في الماء")، فيعني أنّني أريد من الله أن يثبّتني فيه. وإذا كان البرص مَنْ يفرزهم مرضهم خارج جماعتهم، فيعني أنّني أريد من الله أن يشفيني من كلّ شرّ معدٍ، ويمسكني بيدي، ويدخلني من جديد في عضويّة شعبه. معنى هذا كلّه أنّ طلب الرحمة لا يفيد أن يعطيني الله شيئًا محدّدًا فحسب، بل كلّ شيء، أي لا يعني أن يغيّر فيّ هذا الأمر أو ذاك، بل أن يغيّرني كلّي، أن يلدني من جديد. فالرحمة معنى من معاني الولادة الجديدة. الله رحيم، أي إنّه أمّي وأبي.
هذا يدفعنا إلى القول إن كان الله قد ارتضى أن يلدني من جديد فيه، فرحمته لي تبقى ضرورتها الدائمة. من حيث إنّ معناها الأعلى أن أحيا، دائمًا، أمام إله ممجَّد. الرحمة ليست هي حاجة الإنسان إذا سقط في الخطيئة فحسب، بل هي، أيضًا، قوت الإنسان الصالح، أو "درس عمره" (غروب عيد القدّيس إفرام السريانيّ). وهذا يضعنا في خطّ جهاد مستمرّ. الذين ينتقدون تكرار طلب الرحمة في كنيستنا (40 مرّةً مثلاً) هم يتجاوزون، عن عدم معرفة عمومًا، هذا المعنى الخلاصيّ. إذ لا تستطيع أمام مجد الله سوى أن تصرخ ارحمني يا ربّ، "فأنا رجل خاطئ" (لوقا 5: 8). الرحمة، من هذه الوجهة، هي رحمة الله الذي يتنازل إليك، ليرفعك إليه. إنّها أن تؤمن بأنّ "مُراده أن يُخبر عن سعة مجده في آنية الرحمة التي سبق أن أعدّها للمجد" (رومية 9: 23).
يسوع هو الربّ الرحيم الذي من طبيعته أن يقبلنا دائمًا، ليجدّد قلوبنا، ونسلك، في الدنيا، بشرًا شأنهم الأعلى أن يشهدوا على "واسع رحمته" (أفسس 2: 4).