منذ مدّة وجيزة، اتّصل بي شخص أعرفه من طريق أحد أقاربي. وطلب منّي أن أزوره في منزله، لنصلّي معًا. وعلى علمي أنّ الرجل ليس عضوًا في الكنيسة التي أنتمي إليها، أبهجني طلبه. رتّبنا موعدًا. وبعد أن حان، قصدتُ منزله الذي لم أزره من قَبْل.
كان البيت خاليًا إلاّ من ابنته الصغرى، وبعض أثاث عتيق، ورائحة كريهة تطوف في أرجائه. "رائحة توقظ الموتى، وتعكّر عليك صفو زمانك". وفهمتُ أنّ زوجة الرجل قد هجرَتْهُ إلى غير رجعة. حال البيت ورائحته سببهما غيابها. ما يطوف في المنزل كان رائحة غيابها! قعدنا ثلاثتنا. وأخذ الرجل يخبرني، بتفصيل شديد، عمّا آلت إليه حاله. وكانت الفتاة تصغي إلى فاجعة لا يخفى على مَن يراها أنّها تحفظها عن ظهر قلب. كان وجهها المكوَّر الصغير قد أثقلته كآبة كبيرة. إن رأيتها، تحسبها تقطن وهد هاوية يصعب الخروج منها. بقي أبوها يتكلّم، وبقينا هي وأنا نصغي إليه بانتباه صامت. وساقني كلامه إلى أن أشارك الفتاة في كآبتها. وأدركتُ أنّ الرجل يريد، إلى الصلاة معًا، أن أساعده في حلّ أزمة لا يرى أنّ حلّها بالأمر السهل. دعاني إلى منزله، لأرى حاله بأمّ عينيَّ، وأساعده على إيجاد مخرج لأزمته.
باختصارٍ، كانت أزمته أنّ زوجته، بعد أن هجرته، رتّبت لنفسها ارتباطًا برجل آخر. وكان هو يظنّ أنّ كنيسته لا تسمح بفسخ الزواج، ويريد حلاًّ له. لم يسألني إن كانت كنيستي تقبل أن ينتسب إليها، ليحلّ أزمته. هو لم يطلب. وأنا لم يخطر ببالي أن أقترح اقتراحًا لا يقنع كنيستي. فالكنيسة ينتسب إليها الإنسان إيمانًا منه بخلاص إلهها وحلاوة فكرها ومناقبيّتها. ولا يجوز الانتساب إليها لأيّ سبب آخر مهما كانت ضرورته مُلِحّة. وعدتُهُ بأن أفكّر في حلّ ناجع. ثمّ قمنا، وصلّينا. ودّعتهما، وعدتُ أدراجي.
بعد خروجي توًّا، أخذني وجه الفتاة الصغيرة وكلمات قليلة ردّدتها أجوبةً عن بعض أسئلة طرحتُها عليها. كانت كلماتها تدلّ على خوف متّقد. قالت إنّها تركت مدرستها، لتهتمّ بالمنزل! لم أسمع أسفًا خرج من فمها على هذا الترك المؤلم، ولا حتّى على غياب أمّها. أنا لم أسألها رأيًا في غياب مَن ولدتها، وهي لم تقدّمه. ولاحظتُ أنّها كانت تكلّمني، من بعيد، بعينين مستغربتين. قالت عيناها أشياءَ كثيرةً لم يقلها فمها الذي كان قد تعرّى من بعض أسنانه الأماميّة. ووجدتني أسأل نفسي عن الظلم الذي حلّ بتلك الفتاة التي "تيتّمت" بفعل هجر! في حياتي، رأيتُ أيتامًا كثيرين. ولكنّ يتمًا لم يصدمني كما اليتم الذي يصيب أطفالاً ذووهم أحياء يُرزَقون! إنْ ضَرَبَ الموتُ أحدَ ذوي طفل، يمكنك أن تتفهّم مرارة أزمته. وأمّا مَن يتخلّى أحد أبويه عنه ويفضّل عليه مسرّته، فكيف لك أن تفعل؟
في اليوم التالي، اتّصلتُ بصديقٍ له علاقة وطيدة بكنيسة الرجل وبمسؤوليها. وسلّمتُهُ أمانة الاهتمام بأمره. كلّمته، بدقّة متناهية، على كلّ ما سمعته، ورأيته، وشممته. ثمّ عرفتُ، بعد أيّام عدّة، أنّ الرجلين قد التقيا، وأنّ صديقي باشر ما حسبته مساعدة.
حسبته مساعدة! ولكن، هل ستكون مساعدةً فعلاً؟ ستجد، وفق ما أرجو، شكوى الرجل طريقًا إلى حلٍّ ما. ولكن أيضًا، كيف سيحلّ يتم ابنته؟ كيف سيساعدها على إنهاء خوفها وكآبتها؟ وهل ستقدر على الخروج من هاويتها؟ في الواقع، لا أعرف إن كانت المرأة علمت بما آلت إليه حال عائلتها بعد أن اختارت أن تهجر منزلها. ربّما تكون قد علمت! لقد قال لي الرجل إنّه وزوجته افترقا على اتّفاق! يا لَهذه المفارقة الغريبة: اتّفاق على افتراق! لا أخفي أنّ هذا القول أضحكني في سرّي. كنتُ قد سمعت بهذه المفارقة مرّاتٍ عدّة. ولكنّ ما رأيته، في ذلك المنزل، جعل وقع ما سمعته عليَّ مضحكًا. أحيانًا، أنت تضحك فيما قلبك يبكي. تحسب أنّك تضحك. ولكنّك، واقعيًّا، تبكي.
ليست هذه القصّة، التي قادني إلى معرفتها طلب صلاة، نادرةً في هذا "العالم الحاضر الخدّاع". فالدنيا تعجّ بقصص مشابهة يصعب وصفها وفهمها. لا أدري، فعلاً، لِمَ خطر لي أن أكتب عن بعض وقائع هذه الزيارة التي آلمتني كثيرًا. ربّما أردتُ أن أُخرج ما في قلبي من وجعٍ يصعب أن يخرج. وربّما، ليشاركني مَن يقرأون هذه النشرة في بعض ما رأيته وشممته. العالم وسخ. فهل يعرف مَن يترك أهل بيته، رجلاً كان أو امرأة، الرائحة التي يخلّفها وراءه؟ الخلافات الزوجيّة مبعث يتم غريب. هل سيأتي يوم يدرك فيه جميع مَن ارتبطوا في عهد مقدّس أنّ الله دعاهم، "لتكون لهم الحياة، وتفيض فيهم" (يوحنّا 10: 10)؟ هل سيأتي يوم يدرك فيه أهل الأرض جميعًا أنّنا قادرون، بنعمة الله ومعونته، على أن نحلّ أيّ أزمة نرضى أن نضرب بها أنفسنا ومَن معنا وإلينا؟ متى يعرف كلّ إنسان، يُفترض أن يكون راشدًا، أنّ قتل نفس طفل أبشع أنواع القتل في هذا الوجود؟ متى يعرف أنّ الربّ إنّما أوجدنا، لينشر بنا شذا رائحة معرفته (2كورنثوس 2: 14 و15)؟