كلّ وجودٍ، يحلو لله، رسمت مقتضياتِهِ الخدمةُ الإلهيّة. وهذا، في ما يخصّنا نحن الحركيّين (وكلّ مَنْ يعنيه غنى قلبه)، يعني أنّ شأننا أن نسعى، دائمًا، إلى أن نشبه، في فكرنا وحياتنا، الخدمة التي تجعل المؤمنين "جسد المسيح" فعلاً.
لن أستعرض، هنا، أجزاء الخدمة الإلهيّة كلّها. فهذه، معروفةً، خدمة واحدة لا تتجزّأ. غير أنّي سأقتبس منها وجوهًا أربعةً (الكلمة، القرابين، جماعة الإخوة، والصلاة)، وأحاول أن آتي منها إلى حياتنا الحركيّة.
الكلمة:
وجه من وجوه الخدمة الإلهيّة أنّ كلمة الله تُقرأ فيها. تُقرأ، وتُوزَّع. ولا أعتقد أنّنا نحتاج إلى أن نجزم أنْ ما من خدمةٍ إلهيّةٍ تمّت، في التاريخ، من دون "كلمة". هذا ما كان منذ البدء. فمعظمنا يعلم أنّ المسيحيّين الأوائل كانوا يلتقون، في الاجتماع الإفخارستيّ، حول كلمة الله (العهد القديم) قَبْلَ أن تدوَّن كتبُ العهد الجديد. وخيرُ دليلٍ على ذلك ما أورده لوقا الإنجيليّ عمّا جرى، بعد قيامة الربّ، "على طريق عمّاوس" (24: 13- 35)، أي إخباره أنّ يسوع الناهض من بين الأموات، قَبْلَ أن يقعد مع تلميذَيْه إلى مائدة الطعام ويناولهما الخبز الذي كسره، كان قد "بدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسِّر لهما، في جميع الكتب، ما يختصّ به". وإذا قلنا إنّ وجودنا رسمت مقتضياته هذه الخدمة، فأمر يجب أن يعني لنا أنّ كلّ لقاء، نقيمه، يطلب أن تُقرأ فيه كلمة الله. تُقرأ، وتُوزَّع. هذا، في شكله ومضمونه، يوحي بأنّنا نؤمن بأنّ حياتنا كلّها، كلّها، أجل كلّها، إنّما هي امتداد للخدمة الإلهيّة. وهذا، في شكله ومضمونه أيضًا، يوجب أن نشجّع بعضُنا بعضًا على أن نقرأ الكلمة، يوميًّا، قراءةً شخصيّة. فالكلمة، التي نقرأها معًا ويقرأها كلٌّ منّا على نفسه، هي التي تعيننا على أن نكسر الأصنام التي قد نصطنعها، والتي قد نرتاح إليها. ولا يحتاج نهضويّ واعٍ إلى مَنْ يؤكّد له أنّ اجتماع الإخوة، حول الكلمة، هو الذي يساعدنا على كشف معناها الذي ثبّته ربّنا. فالإخوة، ولا سيّما منهم الذين تمرّسوا بتراث كنيستنا، قادرون على بوح الحقّ بأجلى بيان. وتاليًا، تعطينا القراءة الشخصيّة، على ضوء القراءة الجماعيّة، أن نتزوّد بوعي مبرور يعوزه كلّ لقاء نركن فيه بعضُنا إلى بعض. إن كنّا نعرف أنّ جسد المسيح، الذي نتناوله في الخدمة، ينمّي مواهبنا الشخصيّة، فيجب أن نضمّن معرفتنا أنّ قراءة الكلمة تثبّت هذا النموّ، لنرجو أن نكون، بدورنا، كلمة الله أيضًا، أي رسالةً منه "لم تكتب بالحبر، بل بروح الله الحيّ" (2كورنثوس 3: 3).
القرابين
للكلمة والقرابين ترابط ثابت. فالثابت أنّ هدف قراءة الكلمة وتوزيعها، في الخدمة الإلهيّة، أو من أعلى أهدافها، أنّها تحثّنا على التوبة عن "خطايانا الواضحة"، وذلك "قَبْلَ القضاء فيها" (1تيموثاوس 5: 24). فالخدمة الإلهيّة مسيرة نحو القرابين التي أن نطيع الكلمة ضوءُ دربِنا إليها. ولقد أنارنا العلاّمة أوريجانّس بقوله إنّ المسيح، في الخدمة، يخطب كنيسته في قراءة الكلمة، ويتّحد بها في تقديمه لها جسده ودمه. وهذا، الذي يدلّنا على الترابط الذي أتينا على ذكره الآن، يؤكّد أنّ الكلمة التي نقرأها، إن في الخدمة أو في اجتماعات فرقنا أو على أنفسنا، إنّما هي رسالة موجّهة إلى كلّ منّا.
عمليًّا، هذا يبيّن أنّ أحدًا لا يمكنه أن يقفز إلى قبول جسد الربّ ودمه زادًا أبديًّا إن لم يرتضِ كلمة الله المصلِحة، أوّلاً، زادًا أبديًّا. وهذا، إذا تركنا الذين يجرحون الله بإهمالهم دعوته المحيية، يدين كلّ تأخّر عن الخدمة (وكلّ خروج مبكر منها)، أيًّا كان تبريره (اللَّهمّ إلاّ في حالة المرض، أو رعاية مريض ليس له مَنْ يعينه سوانا). تأخّر بعض المؤمنين (أو خروجهم المبكر)، الذي نراه في معظم رعايانا اليوم، عادة يأباها برُّ الوعي. ويعيبنا أن يكون هذا حالنا. وهنا وثمّة، هذا حال بعضنا. فإن كانت الخدمة الإلهيّة واحدةً لا تتجزّأ، لا يليق بأحد أن يعلّي جزءًا منها على آخر، ولا أيّ جزء، مهما بدا له عاليًا. وإن كانت واحدةً لا تتجزّأ، لا يليق بأحد، تاليًا، أن يحسب عدد المرّات التي يأتي فيها إلى الخدمة، ليشارك فيها، أو يغيب عنها، على هواه. فالخدمة واحدة، أي إنّها لا تُعدّ. والعارف لا يفوته أنّ أدبنا الكنسيّ لم يجمع، مرّةً، لفظة "قدّاس". نحن لم نقل، يومًا، "قداديس". ليس من "قداديس". ثمّة، كما يؤكّد اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ بول أفدوكيموف، قدّاس واحد "أزليّ فريد، (هو) عشاء المسيح في العلّيّة... ويعاد إحياؤه، دائمًا، في السرّ المقدّس".
أمّا القرابين، فهي سبيلنا إلى أن نتّحد بجسد المسيح السرّيّ، الذي هو، في آنٍ واحد، قرابينه المقدّسة وكنيسته المقدّسة. وإذا أتينا إلى اجتماعات فرقنا من هذا المعنى الخلاصيّ، الذي يحبونا عن أن نتّحد بجماعة لا يجمعنا بها إيمان واحد، فأمر يجب أن يدلّنا على أنّ انطلاقنا بعضنا إلى بعض يأتي، أساسًا، من أنّ الربّ وحّدنا به وبعضنا ببعض. نحن، الذين جعلنا ربّنا واحدًا في الخدمة، نلتقي. نلتقي، أو نمدّ لقاءنا المقدّس عينه، لنعي، ما استطعنا، أنّنا واحد. فالوحدة، التي هي هبة إذًا، نسعى إلى أن نشبهها في حياتنا معًا. ليس أعلى من كلمة الرسول: "فلستم، إذًا، بعد اليوم، غرباء أو نزلاء، بل أنتم من أبناء وطن القدّيسين ومن أهل بيت الله" (أفسس 2: 19) وصفًا حقيقيًّا لما وهبنا الله إيّاه في الاجتماع الإفخارستيّ. ومن هذا المعنى الذي يصدع بالحقّ، تبقى دعوتنا أن نبيد كلّ عيب فينا يوهمنا بأنّنا ذوو حسب ونسب. فنحن، الذين نتناول قربان الله، نسبنا الربّ إليه. "خلّص، يا ربّ، شعبك، وبارك ميراثك"، تعني، ممّا تعني، أنّنا، بتناولنا قرابينه، بتنا واحدًا، لنحيا واحدًا. ولا يفوت مَنْ يعلمون أنّ تراثنا يذهب إلى أبعد من هذا بتأكيده أنّ الذين يتناولون جسد المسيح ودمه، يتناولهم مسيح الله نفسه. في الخدمة، نغدو المسيح.
جماعة الإخوة
بعدَ ذكرِ ما ذكرناه، يبدو أنّ وجه "جماعة الإخوة" قد استوفى الكلام عليه. وهذا صحيح. ولكنّنا، من دون أن نضيف شيئًا إلى ما قلناه، يجب أن ننتبه إلى أنّ صورتنا، مجتمعين في فرقنا وفروعنا وما إليها، لا تضمّ كلّ مَنْ نلتقي وإيّاهم في الاجتماع الإفخارستيّ. معنى ذلك أنّ اجتماعاتنا كلّها لا قيمة لها إن لم نستقرّ في أنّها مفتوحة على الكلّ. فجماعة الإخوة هي المؤمنون وحُلمهم أيضًا. معظمنا يعلم أنّ الحركيّين الأوائل لم يكن من أهدافهم أن تكون لهم بيوت حركيّة خاصّة. هذا تمّ، هنا وهناك. ولستُ، هنا، بوادٍّ أن أناقش ما قد تمّ. مشهدنا الحقيقيّ، الذي ما زال ظاهرًا في معظم أماكن وجودنا، أنّنا نجتمع في قاعات كنائس رعايانا. وهذا مشهدٌ تعبيرُهُ صارخ، ويجب أن نصرّ عليه (إن ملكنا بيوتًا خاصّةً، أو لم نملك). فنحن أبناء البيت. وهذا يحمل برنامجه فيه. فنحن لا نحصر هدف لقاءاتنا بنا. ولكنّنا نلتقي دائمًا، لنستذكر ما يريده الله منّا. نحن أصحاب دعوة. هذا من طبيعة رؤيتنا ومبادئنا وأهدافنا. وتاليًا، تكون "جماعة الإخوة" كلَّ أخٍ معنا في الاجتماع الإفخارستيّ أو يجب أن يكون. كلّ طفل أو فتًى أو شابّ أو كهل أو شيخ، قريبًا أو بعيدًا، ذكرًا أو أنثى، دعوتُهُ قائمةٌ في غير لقاء نقيمه، أو هذا ما يجب أن يكون الحال. نحن، وإن التقينا في قاعات مغلقة، نعرف أنّ قاعاتنا ليس لها جدران وسقف. إنّها مفتوحة على السماء وعلى كلّ أخ يعلم بأنّه أخ، أو لا يعلم. وثمّة بين الإخوة مَنْ يتهدّده فكر غريب أو فقر غريب. كلّ إنسان أخونا، ويحضّنا الاجتماع الإفخارستيّ على أن نذكر، في لقاءاتنا طرًّا، أنّه أخونا.
منذ مدّة، سألني أحد الإخوة: "لِمَ هذه الكنيسة الجديدة لا تحوي سوى مذبح واحد؟". أجبته: " لكلّ كنيسة مذبح واحد". فعاجلني بقوله: "لا، بل هناك مذبح آخر، هو مذبح الفقير". وهذا، الذي لا يناقض أنّ للكنيسة مذبحها الواحد، صحيح كلّيًّا. لن أستغرق في الكلام على أهمّيّة خدمة مَنْ هم "الإخوة الصغار". فقط، يعنيني أن أذكر أنّ الإفخارستيّا، إن لم تعلّمنا أنّ أوجاع الناس ومصاعبهم هي أوجاعنا ومصاعبنا، فنحن لا نكون فهمنا أنّنا جماعة إخوة، أي لا نكون فهمنا شيئًا. كلّنا يعلم أنّ الحركيّين انتبهوا، منذ أن مَنَّ الله عليهم بأن يعوا محبّته، أنّ كلّ ما نفعله باطل إن ظلّ، لا سيّما بين ظهرانينا، أشخاص يميتهم فقرهم. وهذا، الذي يجب أن يبقى حيًّا فينا، سببه أنّ الإفخارستيّا، التي "تحفظنا من الموت، وتؤمّن لنا الحياة الدائمة في المسيح" (رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ إلى كنيسة أفسس 20: 2)، تحثّنا، في الآن عينه، على أن نسعى إلى أن نحيي كلّ مَنْ يتهدّده الموت في وجوهه كافّةً (الجوع، والعطش، والغربة، والعري، والمرض، والسجن)، أي تحضّنا على أن تكون حياة الله، التي استقرّت فينا، لغتنا وشغلنا الشاغل. فمن الإفخارستيّا أن ننطلق إلى الإخوة المحتاجين إلى خدمة. فالمسيح "هو إفخارستيّا العالم" (الأب ألكسندر (شميمن)، من أجل حياة العالم، صفحة 55)، أمر يعني أنّه ينتظر أن نجتهد، ما حيينا، في أن نحوّل الكون إلى مائدة محبّة تقضي على مصادر الموت، وتنتشل الغارقين في ظلامه، وترفعهم إلى بركات الوعي أنّنا جماعة الإخوة.
الصلاة
أمّا الوجه الأخير، فهو الصلاة. وهذه، التي نجترئ على أن نرفعها في الخدمة الإلهيّة إلى الله الآب، وجه من الوجوه الراضية التي، إن مارسناها كما يليق بالله، تؤكّد أنّنا نعي، فعلاً، أنّه قد تبنّانا بنعمته. لن أكرّر الكلام على أنّنا "من أهل بيت الله". فما يعنيني، هنا، أن نبقى على وعينا أنّنا، إن كنّا نصلّي في الأفخارستيّا، فأمر يجب أن يعني لنا أنّنا نفعل في كلّ لقاء نقيمه، وأنّ كلاًّ منّا يفعل لا سيّما "في مخدعه". معظم الناس يصلّون. أمّا صلاة الذين يلملمهم الله بدعوته إيّاهم إلى المشاركة في مائدته، فمدلولها أنّهم، في غير موقع يكونون فيه، إنّما يصلّون إلى إله الجماعة، أي إلى إله الإفخارستيّا، أي إلى الإله الذي يقدّم لنا، في كلّ خدمة إلهيّة، جسده ودمه المباركَيْن.
لا أحبّ الجزم في أمور الناس والدنيا. أمّا في أمر الله، فيجب أن نفعل دائمًا. فالله ثابت في محبّته لنا. ويجب أن نكون نحن ثابتين في محبّته أيضًا. ولستُ بمختلسٍ موقعَ الله إن ظننتُ أنّ ثمّة بيننا مَنْ لمّا يرتقِ إلى أنّ موافقة نهضة الله تفترض أن نوافقه في أموره كافّةً. وإذًا، من عمق وعينا الإفخارستيّ أن نرفع قلوبنا إلى الله، أي أن نصلّي، لا سيّما صلواتنا اليوميّة (السحريّة والغروب والنوم الصغرى). هذا دليلنا الساطع أنّنا، إفخارستيّين، نؤمن بأنّنا نحيا بالنعمة التي هي فخرنا وينبوع شهادتنا. ومن عمقه أن نصلّي بعضنا من أجل بعض. عندما ذكرتُ التأخّر عن الخدمة (والخروج المبكر منها)، كنتُ أودّ أن أقول إنّ هذه الآفة، في وجهيها الممقوتَيْن، لا تسيء إلى أدب المشاركة في الخدمة فحسب، بل إلى لاهوتها دائمًا. وهذا ذكره يوافق هنا. فهذه الآفة تدلّ، ممّا تدلّ، على جهل احتضان الإخوة في الخدمة وفي غير حال. فأنت لا تأتي إلى الخدمة متأخّرًا (أو تخرج قَبْلَ أن تنتهي)، إلاّ لكونك لم تعِ قيمة ارتباطك بجسد المسيح، ومنه أنّك، مثلاً، لا تعرف أنّ ثمّة أخًا يحتاج إلى أن تحتضنه في صلاته وتقرّبه من الله، أخًا لا يمكنك أن تحيا من دونه، أخًا يحتاج إليك كثيرًا. فالصلاة من مقتضياتها الملزمة أن تحتضن سواك. ليس من تراثنا أن يكتفي المؤمن بنفسه. تراثنا كلّه أن أسعى إلى خلاص إخوتي فيما أسعى إلى خلاصي، أو قَبْلَ خلاصيّ! كلّ أخ يحتاج، لينمو بالحقّ، إلى أن أرفعه، في سرّ قلبي، قربانًا إلى الله. الخدمة الإلهيّة، كلّها كلّها، أن نتحوّل جميعنا إلى "قربان مقبول عند الله قدّسه الروح القدس" (رومية 15: 16). وهذا فرقُنا وحياتُنا مطرحٌ رحبٌ له.
كلّ معنى وجودنا أن نشبه الإفخارستيّا. وهذا، الذي يجب أن نسعى إليه دائمًا، عُبّد لنا تحقيقه بعد أن صحّح الله عتاقتنا، وجدّدنا بوعي نهضته.