22أبريل

هل الحياة الكنسيّة أُمنية؟

سؤال أخذ يهاجمني منذ أيّام. وجعي من آفات مُرّة، تُرى تتخطّر في "ساحة" كنيستنا، جعله ينقضّ عليَّ، مرًّا ومرارًا. في بادئ الأمر، استطعت أنّ أردّه عنّي. لم أردّه خوفًا من أن أباشر الكتابة فيه، بل، إن فعلت، من أن أُفهم خطأً، وأُعثر، عن غير قصد، بعض الذين سيقرأون سطوري. ثمّ قبلت استقبال هذا الضيف (الثقيل). غلبني إلحاحه المتكرّر، وارتضيته، كما فرض ذاته عليَّ، حرفًا حرفًا.

            كان بإمكاني أن أختصر ردّي على هذا السؤال بقولي: "لا، ليست الحياة الكنسيّة أماني". لكنّني لم أُرد أن أعتمد هذه الإجابة التي تفترض خبرةً روحيّةً عاليةً لم أرتقِ إليها. فأنا، بصدق لا تزييف فيه، أقرّ بأنّني لم أتخلّص من إلحاح لحم ودم. وإثباتي، هنا، أنّني قبلت سؤالاً لا يُقبل! هل أعني أنّنا، في حياتنا الكنسيّة، ليس لنا ما نتمنّاه؟ بلى، ثمّة أمور عديدة نتمنّاها. فالحياة في المسيح لا تخلو من أمنيات شرعيّة، بل تعجّ بها. مثلاً، ألا نتمنّى أن يضيء نور وجه الربّ علينا، في هذا الدهر وفي الدهر الآتي؟ لكنّنا لا يمكننا أن نأتي من أمانينا إلى أيّ واقع كنسيّ، أيًّا كان. الواقع الكنسيّ، عامًّا أو خاصًّا، يُنظر إليه بواقعيّة لا تحتمل وهْمًا، ويؤتى إليه في وعي تامّ أنّنا نُسهم في صُنعه! هذا يعني أنّ شأننا الأعلى أن نذكر، في غير حال، أنّنا، جنودًا لله الحيّ، في حالة حرب دائمة. أجل، إنّنا في حالة حرب (في الحرب والسلم!)، حرب ضدّ إبليس وقواه في هذا العالم الذي يرئسه (يوحنّا 12: 31)، منظورةً كانت (هذه القوى) أو غير منظورة!

            لا أخرج على إجابتي عن هذا السؤال، إن ذكرت، علنًا، أنّني أخذت أخطو في وسط عقدي السادس. أسمع صوت فتية يضجّون في "ساحة" كنيستنا؟ هذه الكنيسة، التي دخلتُ على التزامها شابًّا، والتي لا أستكبر إن قلت: بتّ أعرفها جيّدًا من داخلها ومن خارجها، لم تبخل "ساحاتها" عليَّ بكلّ أنواع الصدمات! أوصلتني بعض أوضاع، لا أحبّ أن أتذكّرها سرًّا أو علنًا، إلى أن أسأل نفسي: ما الذي يميّزنا، "ملتزمين"، عن الذين لم يعرفوا الالتزام يومًا (أو الذين هم في الخارج)؟ ودفعتني مرارتي، مرّةً، إلى أن أنسى نفسي. أجل، كدت أفقد صوابي! شيء واحد أعادني إلى رشدي: ما عناه بطرس في سؤاله الربّ يسوع: "إلى مَن نذهب؟" (يوحنّا 6: 68). استرجعت أن ليس لنا، في أيّ ظرف، سوى أن نثبت، ونحارب.

            إذًا، لو لم تكن الحياة الكنسيّة حربًا، لا هوادة فيها، لكان من الشرعيّ أن نُمطر على واقعنا تمنّياتٍ لا تنتهي. لقد سبقني إخوة، اشتُهروا بإخلاصهم لله، إلى القول إنّ الأزمنة كلّها تتعاور الخطايا. فليس من جيل يمكن اعتباره أفضل من سواه. ولا أخفّف من واقعيّة هذا القول إن قلت: لكنّ الكنيسة، لا سيّما في مواجهتها الهرطقات (التعليميّة والأخلاقيّة، لا فرق!)، بنت لنفسها عمارةً قانونيّةً هائلةً في ارتفاعها، لتعلن على الملأ أنّ الحقّ والباطل لا يجتمعان فيها. هذا يدفعنا إلى أن نصرّ، في وقت مقبول وغير مقبول، على أن نلتزم حياة كنيستنا كما عبّرت عن ذاتها، يومًا فيومًا. القوانين، مثلاً، لا يبرّر أيّ جيل أن يتركها تنام في أدراج الماضي. فهذه، كنسيًّا، من صميم إيماننا بأنّ الله يحبّنا، وأنّه يرحمنا إلى ما فيه خيرنا.

            ألاحظ، بألم متعب، أنّ ثمّة، في ساحاتنا، إخوة، لم تلدهم أمّي، لا يدركون حقًّا ما يعنيه أن تحبّ الآخرين، وما يعنيه أن ترحم الآخرين. المحبّة، محبّتهم، والرحمة، رحمتهم، كلتاهما تحرّكهما أمور لا علاقة لها، دائمًا، بكلمة الله وامتداد برّها في التاريخ. يحرّكهما ما يهدف إلى أن يبقى الناس في "معيّة طيّبة"، أيًّا كان ما يقوله هذا، أو ما يفعله ذاك! ويحرّكهما الأصل الواحد. والعائليّة. والتحزّب (في الكنيسة). والمحاباة. والتمييز بين أخ وأخ. والكراهية لِمَن نراهم لا يشبهوننا. وشهوات مريرة... لم أسمع، في سنوات التزامي كلّها، تبريرًا للخطايا تغطّيه "حجّةُ" المحبّة الأخويّة (محبّة أيٍّ كان، كاهنًا أو عامّيًّا)، ولم أسمع تبريرًا للخطايا، قاعدته أنّنا كلّنا خطأة تعوزنا رحمة الله، كما يُسمع في "ساحة" كنيستنا، اليوم!

            إن قلت: عدت إلى رشدي، فعلى مَن ما زلت أخاف حتّى قبلت هذا السؤال الذي اعترفت بثقله؟ مثلاً، هل أرى إخوةً لنا باتوا يضعون رجْلاً في داخل الكنيسة وأخرى في خارجها؟ ثمّة إخوة ضعفاء، يجب احتضانهم ورعايتهم، دائمًا. أمّا خوفي، فعلى أن نكون سببًا في ضياع الرؤية التي رسمت حياتنا: أنّ الكنيسة هي، عينًا، "مقرّ الله". أليست الكنيسة مقرّ الله؟ ألم يكتب المغبوط أُوغسطينوس، في تعليقه على "دستور الإيمان" (أومن بإله واحد...)، ما يعني أنّ الآباء القدّيسين أخذهم، في صياغة هذا الدستور، أن يتكلّموا، أوّلاً، على الله المثلّث الأقانيم، قَبْلَ أن ينتهوا إلى الكلام على الكنيسة. وبذا كشفوا اعتقادهم "أنّ الكنيسة هي مقرّ الله"؟ أجل، أخاف أن تُغطّى هذه الرؤية الفذّة التي شأننا كلّنا أن نرتضيها، اليوم وغدًا، بكلّ إرادة حرّة، حياةً لنا. هل لم أرجع إلى رشدي، فعلاً؟ بلى! لكنّني لا أحبّ أن يجعل أحدٌ من بشارة يسوع أمرًا غير واقعيّ! هل أبتدع إن قلت إنّه، بما يخصّ الإرشاد الكنسيّ، لا يقنعني سوى الكلمة المتجسّدة؟! إن كان تعليمنا أنّ الكنيسة هي "مقرّ الله"، فهذا يحثّنا كلّنا على أن نرتضي برّ الله فينا. هل أحلم؟ هل الكنيسة، التي أؤمن، بها كنيسة أبرار فحسب؟ لا، بل كنيسة خطأة، خطأة كبار، إنّما "خطأة يتوبون".

            في ظلِّ ضجيجٍ نزق، لم أرد، في هذه السطور، أن أرمي على الساحة ضجيجًا، بل أن نبقى جنودًا لله بواسل في الردّ على كلّ خطيئة مدمّرة تخالف كلمة الله الذي يرى، و"يعرف كلّ شيء"!

- مجلّة النّور، العدد الثاني، ٢٠١٤
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content