هل يمكننا أن نضمّ صوتنا إلى القائل: "فإنّنا نحن أيضًا كنّا بالأمس أغبياء عصاةً ضالّين، عبيدًا لمختلف الشهوات والملذَّات، نحيا على الخبث والحسد، ممقوتين يبغض بعضنا بعضًا" (طيطس 3: 3)؟
هذا الاعتراف الجريء لا يمكن أن يبوح به، فعلاً، سوى مَنْ يؤمنون بِمَنْ خلّصنا، رحمةً، "بغسل الميلاد الثاني والتجديد من الروح القدس" (الرسالة ذاتها 3: 5). بعيدًا من هذا الإيمان الحيّ والمجدِّد، يكون كلّ اعتراف لنا بماضٍ مقيت جرحًا لا يمكن أن يدمل، مرارةً ليس لها مَنْ يُحلِّيها. هذا إن اعترفنا!
في هذه السطور التي تصوّر ماضي كلّ واحد منّا كما لو أنّه أفعًى!، لم يتكلّم الرسول على تجديدٍ أنقذَنا من خطايا محدّدة، بل من كلّ خطيئة رمتنا بعيدًا من خلاصنا. قال أوّلاً: "كنّا أغبياء". والغباوة أن نحيا لا نفهم شيئًا. ثمّ قال: "عصاةً ضالّين، عبيدًا لمختلف الشهوات والملذَّات". وهنا، أوضح أنّ ما لا نفهمه إنّما كنّا نرتكبه عن قصد، أي كنّا نخالف الطاعة في ضلالٍ مُبينٍ جعلنا أسرى كلّ شهوة فارغة. ثمّ قال: "نحيا على الخبث والحسد"، أي على كلّ أمر فاسد فيما منى قلبنا أن يفتقر سوانا إلى كلّ نعمة، لنمتلكها وحدنا حصرًا. وختم: "ممقوتين يبغض بعضنا بعضًا". وأراد أنّ نصيبنا من الناس كان بغضًا نتناقله. هذه لعنة الكون التي تجعلنا أعداء الله وبعضنا بعضًا. كلّ خطيئة شأنها أن تفصلنا عن الله والناس في آنٍ.
أمّا النعمة الغنيّة العظمى التي حزناها مجّانًا، فإنّنا غُسلنا، وجُدّدنا. لم يكتفِ بولس بقوله: قد غُسلنا، بل أضاف: وجُدّدنا. استعار صورة الغسل الذي يزيل كلّ وسخ، ولم يتوقّف عندها، بل رأى تجديد الخليقة بنعمة الروح القدس الذي أُفيض علينا بسخاء. وبيّن أنّ هذا كلّه تمّ لنا رحمةً، أي من دون أيّ خير فينا. فهذه اللفظة (رحمة) لا تدلّ على أمرٍ حَدَثَ عفوًا!، بل على أنّ الله أُمُّنا وأبونا. ربّما نسأل: ما دام الله أُمَّنا وأبانا، فَلِمَ تَرَكَنا نبتعد عنه هذا الابتعاد كلّه؟ وعلى شيوع السؤال، لا بدّ من أن نعرف أنّ الله لا يتركنا. قضيّته كلّها معنا أنّه يؤمن بحرّيّتنا، أقبلناه أم رفضناه! ويجب أن نرى، في هذا الاعتراف، أنّ الخلاص من الخطايا يفترض وعيًا ظاهرًا. هناك، في هذا العالم، أشخاص، لا يعدّون ولا يحصون، يرتكبون آثامًا من دون أن يعوا شرّ ما يفعلونه. هذا لا يعني أنّهم يفعلون ما يفعلونه عن غير قصد، بل يرمون، جانبًا، أنّ الله أُمُّهم وأبوهم. وهل من غباوة تفوق هذه الغباوة؟ كلّ خطايا الأرض نبعها غباوة أن نضع الله جانبًا.
لا يعوزنا أن نستغرق في شرح طويل، ليتّضح لنا أنّ "غسل الميلاد الثاني والتجديد من الروح القدس"، إنّما تعني المعموديّة التي منحتنا نعمة التبرير ورجاء ميراث الحياة الأبديّة (3: 7)، أي التي تؤسّس عليها حياتنا الجديدة كلّها. وخير ما يريده الرسول من ذكره المعموديّة، هنا، أن يكون المعمَّدون عمّالاً صالحين، أنقياء، لا يخاصمون أحدًا، بل "حلماء يظهرون كلّ وداعة لجميع الناس" (3: 1 و2). لا يتكلّم بولس، في هذا السياق، على ما قد ينفّذه المعمَّد، أي، مثلاً، على الصلاة الجماعيّة والفرديّة والصوم وقراءة الكلمة وما إليها، وهذه أساس، بل على عمل الخير في الأرض والمصالحة العامّة التي تفضح الغباوة وعبوديّة الشهوات وكلّ انفصال عن الناس، أيًّا كان دافعه. وهذا أساس أيضًا. وإذا أضفنا إلى ما قاله ذكرَهُ "الحكّام وأصحاب السلطة" (الآية الـ1)، يكون قصده، بكلامه على "جميع الناس"، لا يتعلّق بعمل الصلح مع المؤمنين داخل الكنيسة حصرًا (وهذا واجب دائمًا). فجميع الناس تعني جميع الناس. أنت معمَّد، أي أنت إنسان لا تُخاصم أحدًا، أيًّا كان وكان فكره. وهذا تتبعه الآراء السياسيّة حكمًا.
الناس، في العالم، قد يتخاصمون على غير أمر (نافع أو تافه). يقول الرسول إن كنّا عدنا لا ننتمي إلى هذا العالم الحاضر (أي لسنا منه)، بل إلى الله الذي وَلَدَنا جديدًا، فشؤون العالم وضجيج العالم وفحيح العالم لا يحلّها أن ننجرّ إلى التحزّب فيه. نحن قوم جدّدنا اللهُ بنعمة معموديّـته. كنّا أغبياء قَبْلاً. ولا يليق بنا أن نجترّ الغباوة بعد جِدّة، أو أن نحيا كما لو أنّنا لم نتجدّد. وهذا، ضمنًا، يعني أنّ حياتنا، معمَّدين، أعظم من أيّ حياة أخرى يجتمع عليها الناس في الأرض، وتاليًا من أيّ فكر آخر أو عقيدة أو إيديولوجية. نحن بتنا عائلة الله. لا يمرّ بعقل بولس، وتاليًا لا يريد أن يمرّ بعقولنا، أنّ ثمّة بطنًا في الأرض يلد عائلةً خيرًا من جرن المعموديّة. هذه قرابة لا يشكّ فيها، أو يتجاوزها، سوى الذين لم يتخلّصوا من غباوتهم، أي مَنْ مرّوا بجرن المعموديّة عبورًا من دون أن يسكنوا فيه. ولذلك يأمرنا بأن نكون جددًا في الأرض أيضًا، أي أشخاصًا همّهم أن يزرعوا دنياهم بالعمل الصالح والصبر والوداعة، أي أنّه ينتظر، بذكره هذه الفضائل الثلاث، أن تُطلق جِدّتُنا في أمداء تعوزها الجِدّة. هل هذا ضدّ العمل السياسيّ، مثلاً؟ لعمري، لا، بل ضدّ كلّ اصطفاف ينسينا أنّ خلاص العالم كلّه مسؤوليّتنا، أي ضدّ كلّ انفصال عن الناس خَبِرنا شرّه.
قال بولس: "كنّا بالأمس"، أي كانت لنا قديمًا خبرتنا في الغباوة! إنّنا ذقنا مرارتها وآلامها وما تخلّفه من خطايا قاتلة وانقسامات مقيتة. وما يبقى لنا، جددًا، أن ندخل العالم عارفين بوهن معاييره، لنسعى إلى أن ننقذه من غباوة ربّما لم يخبره أحد عنها، أو لا يعترف بها. هذا العالم يفتقر إلى الخير والسلام. وقيمة المسيحيّ أنّه يأتي من الله الذي منحه الخير كلّه والسلام كلّه، ليحيا به، ويضعه حيثما حلّ أو نزل.
هذه هي هبة الجِدّة التي يعطينا التزامها، يومًا فيومًا، أن نرجو أن يمتّعنا الله بِجِدّة أبده.
(نشر المقال في نشرة "رعيّتي" التي تصدرها مطرانيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) )