10أبريل

نيقوديمس

هو الذي أتى إلى يسوع ليلاً. وحده يوحنّا، من بين رفاقه الإنجيليّين، يذكره، ثلاث مرّات، في مواضع عدّة (3: 1- 21، 7: 50، 19: 39). سنحاول أن نتعرّف إليه بتتابع. ونكتفي، هنا، بالموضع المبيَّن أوّلاً.

يعرّفنا الإنجيليّ الرابع بنيقوديمُس بقوله: "وكان في الفرّيسيّين رجل اسمه نيقوديمُس. وكان من رؤساء اليهود. فجاء إلى يسوع ليلاً". وبهذا التعريف الموجز، أراد (ربّما) أن يدلّنا، من جهة أولى، على ملكة فيه رائعة، أي على تواضعه

(كان بإمكانه أن يدعو يسوع إليه، لكنّه أتاه بنفسه)، وأن يعلن، من جهة أخرى، أنّه لم تكن عنده الجرأة الكاملة، ليأتي إلى الربّ في وضح النهار. وهذا المجيء الليليّ انتقده، بعنف شديد، آباء قدماء، ولا سيّما منهم أوغسطينوس. وجرى بينه وبين الربّ حوار بدأه الآتي ليلاً بكلام صاغه في صيغة الجمع، كما لو أنّه يتكلّم باسمه وآخرين سواه (يبدو يمثّل السلطة اليهوديّة).

قال: "رابّي، نحن نعلم أنّك جئت من لدن الله معلّمًا، فما من أحد يستطيع أن يأتي بتلك الآيات التي تأتي بها أنت إلاّ إذا كان الله معه (أي، تمامًا، كما كان مع الأنبياء)". "فأجابه يسوع". وبهذه العبارة التي جعل الإنجيليّ فيها ما سمعه يسوع سؤالاً، دلّ على قبوله أن يحاور زائره. ثمّ نقل يسوع محاوره من مستوى إلى آخر، أي من المعرفة (نحن نعرف) إلى الحياة الجديدة، بقوله له: "الحقّ الحقّ أقول لك: / ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله / إلاّ إذا وُلِدَ من علُ". بدا نيقوديمُس، في كلامه، يشغله المعلّم الذي أمامه. ودبّج له يسوع جوابًا بيّن فيه الهدف من وجوده أمامه. لم يكن قصده أن يكشف نفسه توًّا، لئلاّ ينقطع الحوار، بل أن يرفع محاوره إلى أنّ الأمر ليس أن تعرف، بل الأمر، الأمر كلّه، أن تولد من فوق، أي من جديد. ويعرف قرّاء إنجيل يوحنّا أنّ هذا الفعل (يرى) استعمله يسوع، في موقع آخر، دلالةً على نفسه أنّه الطريق إلى أبيه (14: 9). وحار نيقوديمُس في أمره. لم يفهم. فسأل: "كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع أن يعود إلى بطن أمّه، ويولد؟". ردّ عليه الربّ بقوله: "الحقّ الحقّ أقول لك: / ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله / إلاّ إذا وُلد بالماء والروح / ... / لا تعجب من قولي لك: / يجب عليكم أن تولدوا من علُ...". وهذا الكلام على "الولادة" يفترض فهمه رجوعًا سريعًا إلى ما دوّنه يوحنّا قَبْلاً.

إذا عدنا إلى ما دوّنه يوحنّا قَبْلَ هذا الحوار، فإلى نشيد الكلمة وأخبار المعمدان الأولى، لن نجد إلاّ بعض أحداث تروي اختيار الربّ تلاميذه وإيمانهم به. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ الحوار مع نيقوديمُس، إنّما يأتي بعد كلام على التلمذة والإيمان، ليصبّ في هدفهما المباشر، أي في المعموديّة. ولا نقول شيئًا غريبًا إن قلنا إنّ هذا الخطّ هو الذي التزمته الكنيسة عبر أجيالها (تتلمذُ المؤمنين البالغين يتبعه إجراء معموديّتهم). وإذًا، كلام الربّ على الولادة بالماء والروح هو كلام على الولادة الجديدة التي تتمّها المعموديّة. أيضًا، لم يفهم نيقوديمُس. فكرّر: "كيف يكون هذا؟". وأسف الربّ على طرح سؤال سمعه قَبْلاً، ودلّ على خيبته من محاوره بقوله له: "أنت معلّم في إسرائيل، وتجهل هذه الأشياء؟". ما الذي كان هذا المعلّم يجهله؟ كان يجهل الجدّة التي كشفها الله في أنبيائه (أنظر مثلاً: أشعيا 44: 3؛ حزقيال 11: 19، 36: 26 و27)، أي لم يحسن قراءة أنّ الكتب القديمة تهدف كلّها إلى ما قاله يسوع هنا عن شخصه وعطايا روحه.

بعد هذا، يبدأ الربّ يتكلّم بصيغة الجمع. وهذا، الذي يعيدنا إلى ما نطقه نيقوديمُس أوّلاً، يُظهر أنّ الحوار هو، فعلاً، حوار بين مجموعتين: الجماعة اليهوديّة، التي يمثّلها نيقوديمُس، وجماعة المعمّدين الذين شأنهم أن يردّدوا فكر يسوع وحده. قال الربّ: "إنّنا نتكلّم بما نعلم، ونشهد بما رأينا (هبة المعموديّة التي يعيطنا الروح فيها أن نرى الابن "الطريق" إلى أبيه) / ولكنّكم لا تقبلون شهادتنا". ثمّ يعود يسوع إلى صيغة المفرد، فيبدو صوته يدوّي في الجماعة التي انتسبت إليه. قال: "فإذا كنتم لا تؤمنون عندما أكلّمكم في أمور الأرض / فكيف تؤمنون إذا كلّمتكم في أمور السماء". ويصطحب يسوعُ محدّثَه، الذي يقرّر الصمت في ما تبقّى من هذا الحوار، إلى كشف ما قاله أخيرًا. فأكّد له (وَلِمَنْ يمثّلهم) أنّه هو الذي نزل من السماء، أي هو الذي يحمل أمور السماء، ويكشفها. وتكلّم على الابن الآتي ليخلّص العالم، وعلى الدينونة التي هي أنّ "النور (يسوع نفسه كما شهد يوحنّا في 1: 9) جاء إلى العالم / ففضّل الناس الظلام على النور". وكان هذا ختمًا لحوار يطرح سؤالاً عميقًا: أين نيقوديمُس؟! هل أراد الإنجيليّ، في رميه عليه وشاح الصمت، أن ينبئنا أنّه (أو الجماعة اليهوديّة التي يمثّلها) لم يقفز إلى نور الكلمة؟ ما يبدو أنّ نيقوديمُس (وَمَنْ يمثّلهم) لم يستطع، هنا، أن يدرك "النهار" (النور) الذي تجلّى أمامه. هل نظلم نيقوديمُس في جمعه إلى جماعته؟ هل ترانا ننحاز إلى مَنْ ذكرنا أنّه عنّفه، أي إلى أوغسطينوس؟ فهذا المغبوط الأعلم يبدو أنّه لم يظلم في تعليقه على هذا الحوار. قال: "جاء نيقوديمُس إلى الربّ. ولكنّه جاء ليلاً. جاء إلى النور، ولكنّه جاء في الظلمة... ففي نظر بعضٍ، يسوع نبيّ (أو معلّم، كما جاء على لسان نيقوديمُس). وفي نظرِ بعضٍ آخرين (أي المعمّدين) هو الكائن الذي لا يمكن أن يراه أحد سوى الذين ولدوا بالماء والروح".

هذه وقائع إطلالة نقيوديمُس الأولى. ربّما لم يبدُ لنا جَماله ساطعًا كلّيًّا هنا! لكنّه، فيما خدم قلوبنا بما سمعناه من فم الربّ، سيفعل شيئين آخرين، يكشفان جَماله، نتركهما لمناسبة أخرى.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content