هذا ما شغل الحركيّين منذ انطلاقتهم. فالاكتشاف الأعلى، الذي ردّدته النهضة، أنّنا، معمَّدين، نلنا إنعاماتٍ قابلةً للنموّ في التزمنا شركة كنيستنا.
في أثناء هذا، كانت المعموديّة تكاد تكون خبرًا نذكره (إن ذكرناه)، قصّةً تُروى (إن رويناها)، حدثًا اجتماعيًّا (هذا لا يحتاج إلى "إن" وما بعدها)، أي عادةً ورثناها من دون أن نعي ما يقتضيه مضمونها المنجّي. وجاء وعي النهضة. واندفقت المعاني كما السيول. وصالحْنا أنّ المعموديّة هي أن يحيا أهلُ بيت الله حياة الأبد "الآن وهنا". صالحْنا أنّنا "جسد واحد"، كلُّ عضو فيه مفيد لغيره. أي صالحْنا أنّ المعموديّة هي ولادة جديدة تعطي مَنْ نالها أنّه، ابنًا لله، أخٌ لإخوة كثيرين حكم ربّنا أن يحيا معهم، ويثبت فيهم كما الغضن في الكرمة.
لا يسمح لي جهلي الأمورَ الكبرى بأن أفصل إن كان الربّ أراد في قوله: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. فمن يثبت فيَّ وثبتُّ فيه، فذاك الذي يثمر ثمرًا كثيرًا" (يوحنّا 15: 5) أن يحدّد سبيل نموّ المواهب التي ننالها في سرّ المعموديّة. لكنّ هذا لا يمنعني من أن أستلطف إمكان هذا السبيل، بل أن أرجّح موضوعيّته. فهذا القول أتى به ربّنا بعد: "وكما أنّ الغصن، إن لم يثبت في الكرمة، لا يستطيع أن يثمر من نفسه، فكذلك لا تستطيعون أنتم أن تثمروا إن لم تثبتوا فيَّ" (الآية الـ4). وهذا، الذي يطلب أن نرتضي ما مُنِحَاه دائمًا ويحدّد مصيرنا أبدًا، يتضمّن أنّ الغصن، متى قُطِعَ عن الكرمة (أي قطع نفسَهُ)، فسييبس حكمًا. إثماره رهن بثباته فيها، أي في المسيح، أي في جسده الذي هو كنيسته.
لِمَ هذا التشديد الظاهر على حياة الكنيسة؟
تضطرّنا الإجابة عن سؤالٍ نطرحُهُ، في سياقِ كلامٍ استوحاه الربّ من العالم الزراعيّ، إلى أن نركن، إكرامًا للمستوحي، ولو قليلاً، إلى علوم الزراعة. وإذا أتينا منها، فما يبدو واضحًا أنّ الغصن، ثابتًا في الكرمة، ينمو بِنُسَغٍ تمتصُّهُ الجذورُ من الأرض، ويجري في الساق والأوراق بواسطة العروق. ويجب أن نلاحظ أنّ الربّ، في آيتَيْه المنقولتَيْن، لم يقل أنا الأرض، أو أنا النُسغ، أو أنا الجذور، أو أنا الساق أو الأوراق أو العروق، بل أنا الكرمة. إنّه الكلّ. وهذا، كنسيًّا، يجب أن يدلّنا على أنّ الكنيسة، التي تضمّ أغصانًا كثيرةً، هي موئل كلّ نموّ راضٍ. لا يقدر غصن على أن ينمو وحده (أو "من نفسه"، كما جاء على لسان الربّ). نموّه، بمعنى لا ينفي دوره، إنّما هو ارتباط بالكلّ، أي بالربّ الذي ارتضى أن يجمعنا جميعًا فيه. وهذا، الذي يكشف أنّ الجماعة كلّها مسؤولة بعضها عن بعض، يفترض أن يسعى كلّ عضو فيها، جاهدًا، إلى أن يزكّي في كلّ أخٍ معه، أو يأبى أن يكون معه، أنّه غصن قابل للنمو في كرمة الربّ الواحدة.
لم نبتعد عمّا نودّه في هذا الإنشاء المستند إلى علم الزراعة. وهذا لا يوافقه، مثلاً، أن يستغرق بعضنا في وجوه بعض من دون سواهم، أي الأذكياء والأتقياء وَمَنْ إليهم. فوعينا النهضويّ يأبى أن نقفل قلوبنا عن أيّ إنسان، ولا سيّما الذي لا يعي شيئًا، أو نراه يعرج بين الجانبين، أو تجعلنا تصرّفاته نعتقد أنّه من دون أيّ خير! مَنْ أقنعته النهضة بأنّ لكلّ إنسان قيمتَهُ في كرمة (جسد) المسيح، يجب أن يلتزم أنّ قاعدة تعامله مع الآخرين، أيًّا كانوا، إنّما تنزل من فوق، من الله الذي لا يحابي الوجوه. كلّ إنسان نال، في معموديّته، عطايا الروح القدس. هذا سبب يكفي، لنهرول إلى كلّ وجه، ونمسح عنه غبار البعد والإهمال والتبرير وكلّ آفة تنسيه أنّه غصن في الكرمة.
من دون إطالة، هذا يعني أنّنا خصوصًا إلى الإخوة الذين يسمّيهم رسول الأمم: "الضعفاء". إن سألنا: لِمَ هذا التخصيص؟، فيجيبنا بولس نفسه: لئلاّ "نسعى إلى ما يطيب لأنفسنا" (رومية 15: 1). ويا له من جواب! إن كنّا نعرف كنوز كلّ قويّ ونذوق طيبها في غير فعل راضٍ، فما لا يجوز تجاهله الكنوز المكنونة في الضعفاء التي تنتظر مَنْ يكتشفها، ويدرجها في خطّ نموّها. هذا، أيضًا، يحكمه الرسول بقوله التابع: "ليسعَ كلّ واحد منّا إلى ما يطيب للقريب في سبيل الخير من أجل البنيان" (الآية الـ2). كلّ ما يجب أن يعنينا الخير الذي يبني الكنيسة. نحن لسنا جماعة تشترط على الكنيسة أن تقدِّم لها ما ترغب فيه جاهزًا. فعملُها عملُنا. ما نطلبه، إنّما يُنتظر أن نقدّمه، لنوافق الحقّ الذي لا يوافقه أن يكون حالنا كما حال مهاجرين يقضون خارج بلدهم ردحًا من الزمن، وتستقرّ أفواههم، إن أتونا زيارةً، في مدح الخارج وذمّ الداخل! إن كان بعض هؤلاء يحتاجون إلى من يذكّرهم بأنّ المواطن الصالح هو مَنْ يفعل الخير الذي يرغب فيه في وطنه، فيجب أن نقول لأنفسنا، في استعراضنا شؤون الكنيسة، الأمر عينه.
نموّ المواهب، قالت الحركة، أي نموّ كلّ موهبة. وليس لنا، أمام هذا القول، سوى أن ندعو أنفسنا (والناس جميعًا) إلى مصالحة سرّ المعموديّة التي هي قيامنا إلى الكلّ. كلّ شيء بدأ لنا في المعموديّة. هناك متنا مع المسيح، وقمنا معه. وهذا، الذي قد يكون فكرةً عند هذا وذكرى عند ذاك وأمرًا ثانويًّا عند كثيرين، يحضّنا على أن نذكّر بالحقّ الذي كشف لنا أنّ المعموديّة هي الدخول في عائلةِ إلهٍ مَنَحَنا بعضنا بعضًا، لنبقى فاعلين معًا، ونرجو أن نثبت أبدًا.