28مايو

مِنْ معاني تجسّد الكلمة

                التقيتُ، اليوم، بامرأة تلتزم كنيستنا. وكلّمتني، بفمها وعينَيْها، على موضوع يؤلمها.

                أنت تعرف هذه المرأة التي التزمت بعد كبر. ويعنيني أن أخبرك عمّا يؤلمها، لتعتبر به، وترى إن كنتَ قادرًا على أن تفعل شيئًا يريح العالم من مطر الدموع المُرّة.

                يؤلمها الشباب الملتزمون!

                لقد أتت إليَّ، لتبكي أنّها لم تُرَبِّ أولادها، الذين كبروا، على التزام كنيستهم.

                يا لَيتَكَ سمعتَها!

                يا لَيتَكَ رأيتَ دموعها التي كانت تصرخ عاليًا!

                أخبَرَتني أنْ دخلت أولادَها، على غفلةٍ منها، معتقداتٌ تُحرّك أخلاطًا من الناس في بلدنا، والله ليس منها. الله، لفظًا، ربّما يكون منها. أمّا فعلاً، فيصعب أن يكون.

                هذه قصّـتها باختصار.

                إنّني، إن كنتَ تذكر، كلّمتُكَ، مرارًا وتكرارًا، على أنّنا نخصّ الله حصرًا. كنتُ أرى تحيّرك أحيانًا، ولا سيّما بعد أن شببتَ، وبات لك أصدقاء كثر، وغدوتَ تدخل وتخرج، متى أردت. كنتَ ترى الشباب منقسمين شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا. وما زلتُ أذكر يوم سألتَني: إلى أيّ جهة نحن نقف؟ لم أعتبر، حينئذٍ، أنّ في سؤالك سذاجة. فأنا كنتُ، وما زلتُ، أرى ذكاءك متوقّدًا. وما يمكنك أن تؤكّده لنفسك أنّني حاولتُ، كثيرًا، أن أجنّبك الغرق في وحل السياسة. لم أكن أريدك أن تترفّع عن الأرض. فالعالم هو مجال عمل المؤمنين بالله حقًّا. لكنّني كنتُ أريد أن تأخذ فرصتك، لتكبر، وتقدر على أن تنجو، بنفسك، من الغرق في رمال بلدنا المتحرّكة. لا، لا يخيفني، اليوم (وأرجو غدًا)، عليك فكرٌ متطرّف يمزّق الناس. وأعرف أنّ فمك حرّ، ويدَيْك لا ترفعهما إلاّ إلى الله وحده. أنت وأنا نرى الناس يهيّصون، ويصفّقون، متى أطلّ زعيم حكّمته الأيدي والأفواه. ليس من بلد، في الدنيا، يخلو من زعيم. وربّما سيبقى هذا واقعًا إلى منتهى الدهر. ليس هذا همّي الآن. همّي أنّني أذكر لك هذا كلّه، فيما أمامي دموع تلك المرأة التي أتتني قَبْلَ أن آتي إليك.

                هل يمكنك أن ترى، في قصّتها، ما يعنيك؟

                هذا ما أرجوه منك أوّلاً. فالعالم، الذي نحيا فيه، لا يحتاج إلى مخلّص سوى الله. قلتُ لك إنّ لك أصدقاء كثيرين. وأنا لا أعرف كلّ الأحاديث التي تخوضونها، كلّما التقيتم. لكن، يمكنني أن أعرف أنّها لا تخلو ممّا يحدث في البلد، لا تخلو من أخبار السياسة. لقد سمعتُ منك، مرًّا أو مرَّيْن، وربّما أكثر، تحليلاً سياسيًّا. وبصدق، أدهشني ما سمعتُهُ. فنحن، في بيتنا، لا نتكلّم، تقريبًا، في أمور السياسة. وهذا يزيد ثقتي بأنّك وبعض أصدقائك تأخذكم أخبار هذا العالم. لا، لستُ أرى، في أيّ حديث تخوضه، أيّ عيب، سوى ما لا يرضى الله عنه. أنا يعنيني، كثيرًا، أن ترافق الناس. لكن، يعنيني، أكثر بكثير، أن تبقى تذكر أنّ المرافقة ليست أن نمشي وسوانا في طريق واحد هم يفرضونها علينا من دون أن يكون لنا رأي. فلكلّ مرافقة هدفها. والهدف، الذي يجب أن يعنينا نحن، أن يصل مَنْ نرافقهم إلى الله.

                أريدك أن تحمل دموع المرأة، التي ذكرتُها لك، وتحاول أن تحوّلها إلى برنامج عمل حقيقيّ.

                أنتم الشباب لكم أساليبكم الخاصّة التي تنتهجونها في ما تعملونه.

                لا تقبل نفسك رقمًا يضاف إلى أرقام في الأرض.

                كنْ أنت نفسك.

                كنْ أنت نفسك دائمًا.

                عوّد نفسك، وَمَنْ هم معك وإليك، أن تصغوا إلى أيّ خطاب سياسيّ إصغاءً حرًّا. حرًّا، أي لا يخلو من نقد. فليس من زعيم لا يخطئ. إن كان ما من إنسان بريئًا من العيب، فلا نقدر، موضوعيًّا، على أن ننزّه زعماء الأرض عن العيب.

                لا تَقبل، أنت وَمَنْ تجمعك بهم صداقة، أن تحوّلكم إطلالةُ أيٍّ كان، أجل أيٍّ كان، إلى أيدٍ تصفّق وأفواهٍ تهيّص. إن سمعتم، في خطابِ زعيمٍ مثلاً، كلامًا يذكّر بالحقّ، فعلّوا الحقّ فوق كلّ اعتبار. وإن مرّ أمامكم ما هو غريب عن الحقّ، فارموه خارج مسامعكم. وارمه أنت من دون أن تجادل فيه. فنحن لا نحلّل، لنجادل، ونخاصم. نحن زَرَعَنا الربّ في الأرض خميرةَ جمْع. قال إنّنا: "نورُ العالم"، و"ملحُ الأرض". وخير ما أرجو أن تبقى عليه أن تحبّ لا سيّما الذين يخاصمونك. فحسبي أنّك لن تنسى أنّ الربّ، الذي دعانا إلى أن نحبّ حتّى مَنْ يعادينا، لا يرضيه أن نميّز بين وجهٍ ووجه، دينٍ وآخر. اذكر أنّ الحقّ يأتيك من أحبّائه. وتحزّب للحقّ فحسب.

                لا أريد أن أبدو متطرّفًا أمامك. لكنّني، كما قلتُ لك قَبْلاً، وردّدتُ عليك مرارًا، إنّني أكره الهجرة كرهي للشيطان. وافهم، استطرادًا، أنّني أكره كلّ سياسة تدفع الناس إلى الهرب بعيدًا من أوطانهم. ما من أمر، مهما بدا مقنعًا، يمكنه أن يجعلني أُدخل على كرهي أيّ استثناء، اللَّهمّ سوى واجب إكمال العلوم أو طلب التطبّب. ولنا، نحن المسيحيّين، في هذا سند ثابت. فنحن ورثة الشهداء الذين دمهم يصرخ فينا أنِ اشهدوا لله في الموقع الذي ولدتم فيه. وهذا أقوله لك في السياق ذاته، أي هذا يهمّني أن يعطيك قاعدةَ إصغاءٍ لأيِّ خطابٍ سياسيّ. ويهمّني، تاليًا، أن يعطيك، ما لا يقلّ عن القاعدة الأولى أهمّيّةً، أي أن تعلّي كلّ مَنْ يواجه، في خطابه وعمله، كلّ فقر وظلم وقهر ومرض، وتاليًا كلّ تمييز عنصريّ يفرّق، ولا يجمع. وفي كلّ حال، ما يعنيني أن يعنيك أن تصرخ أنت، متى حكمتنا أزمنةُ خرس، في وجه كلّ قهر، ولا سيّما كلّ مَنْ يرمي أوجاع الناس خارج حدود نظره. فقيمة كلّ إنسان، عندنا، أنّ الله أحبّه. وقيمتك أنت، محبوبًا، أن تبقى حرًّا من تبعيّة الترداد العقيم، وأن تجتهد في عمل كلّ ما يرضي الله. فنحن ذوو فعل الخير.

                ماذا أردتُ في قولي: "قيمة كلّ إنسان أنّ الله أحبّه"؟

                أردتُ، ولا سيّما منك، أن تعي أنّ الربّ نزل من عليائه إلى كلّ واحد منّا شخصيًّا. فالتجسّد الإلهيّ، حدثًا، إنّما يجب أن نتلقّف نتائجه كلّنا بأجمعنا. هذا يؤهّلك، أنت وسواك، لأن تردّد، بثقةٍ كلّيّةٍ، أنّ الله أحبّني "أنا"، بفخرٍ لا يعيبك أن تعلّيه ما استطعت. فهذا فخر مبرور. هذا حياتنا. غير أنّ التجسّد، الذي يعني أنّ الربّ لبس ترابنا ما خلا الخطيئة، يعني، أيضًا، أن نبتعد، نحن أيضًا، عن الخطيئة بالتزام عمل البرّ في الأرض. أنت لا بدّ من أنّك تعرف أنّ كنيستنا تنتظر أن تنطبق معاني معتقداتها علينا أيضًا. وأريدك أن تذكر هذا دائمًا. اذكره كلّما أكلتَ وشربتَ، واشتريتَ ثيابًا جديدةً أو أدويةً أو كتبًا، أو اقتنيتَ أيّ غرض تراه ينفعك. اذكره في ذهابك وإيابك، ومتى نِمْتَ وقُمْت. اذكر أنّ ثمّة في الأرض جائعين وعراةً وأمّيّين ومسجونين وغرباء، وأشخاصًا لم تلمس أجسادَهم المتعبة يدُ طبيب. وحاول أن تحوّل كلّ موت مُحَتّم، تراه يتسلّط على الآخرين، إلى حياة يتمجّد الله بها. كلّ ما يصل إليك، وزّع منه. هذا سبيلنا إلى إحياء مَنْ يهدّدهم الموت. وهذا يهبك أن تفهم، ببلاغة، أنّ الربّ جاء من أجلك، ومات وقام، ليحييك أبدًا.

                تلك المرأة، التي قلتُ إنّك تعرفها، دفعتها رؤيتها الشباب في الكنيسة إلى أن تذكر أولادها بدموع مُرّة. فحاذر أنت من أن تغيب حاضرًا، حتّى لا تكون سببًا يُبكي السماء. نحن، يا بنيّ، نعتبر أنّ سماء الله تريدنا أن نفرح أبدًا. وحسنٌ اعتبارُنا. لكن، ما قد يعتبره الله أحسن، ربّما بكثير، هو أن نجعل حياتنا سببًا من الأسباب التي تجعل السماء تفرح. اخدم فرح السماء. اخدمه باستمرار. كانت تلك المرأة تبكي. وحسبي أنّ سماء الله كانت تشاركها في بكائها. احيَ، لتفرح السماء بك. واخدم هذا الفرح ما حييت. هذا قد يعطيك أن تنتظر، برجاء وطيد، أن تفرح فرحًا لا تنقطع حلاوتُهُ.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content