اشتهر د. كوستي بندلي، ولا سيّما في صفوف التيّار النهضويّ، بأن يناديه محبّوه ومعارفه بالأخ كوستي. وهذا، في المسيحيّة، أعلى نداء يُطلق على عضو في الجماعة. وإن قلتُ أعلى نداء، فأعني أشرف من كلّ ما عداه وأبقى. هذا أقوله، وجميعنا نعرف أنّنا نحيا في زمن يكاد حبّ الألقاب الفانية فيه يجتاح كلّ ما هو باقٍ! ينادونه أخًا من دون زيادة أو نقصان. ولستُ بقائل إنّهم يسلخون عنه لفظ عائلته البشريّة (بندلي)، أو مكانته العلميّة، اختصارًا أو تقرّبًا. لكنّهم يفعلون هذا بعضهم مع بعض مأخوذين بوعي أنّنا بتنا جميعًا إخوة بفضل نعمة أتانا بها ابن الله الوحيد، أي بتنا أعضاء في عائلة لا تحاكيها عائلة، أي في عائلة الله. وقد أحببنا، في أسرة تحرير "مجلّة النور"، أن نخصّص هذا العدد تكريمًا لعطاءاته المبرورة التي تساهم، أمس واليوم وغدًا، بتمتين وعي نهضة أرادها الربّ لنا خيرًا وزودًا. فالرجل واحد من جماعة إخوة آمنت بنهضة مَنْ أنهض العالم، بموته وقيامته، ليتمجّد أبوه.
لستُ ممّن عرفوا الأخ كوستي شخصيًّا. أقول هذا بعيدًا من معنى أنّ الإنسان تُعرّف عنه مآثره، ولا سيّما تلك التي ينقلها عنه صدقُ المقرَّبين. وأنت، في العادة، قد تقبلُ شخصًا لم تعرفه في دنياك عن قرب، وقد ترتبط به بودّ ثابت، إن جاءك عنه من فم ثقة. وإن كان هذا يصير في الدنيا، فكيف بدنيا الله؟ بلى، زرتُهُ، مرّةً، في منزله. ولم يبقَ لي من ذكرى تلك الزيارة، التي يكاد يمرّ عليها ما يزيد على العشرين سنة، سوى لمحات لقاء بشخص كبير استضاف فتية يافعين، عرف أنّهم أعضاء في تيّارٍ يعنيه كقلبه. وبقي، تاليًا، إصغاؤه العظيم. فأنت ربّما لا يثيرك شيء في هذا الوجود كما يثيرك شخص يسمعك. شخص تعرف كم هو كبير، ويسمعك. شخص يعطيك أذنيه، فتشعر بأنّه يرحّب بك في قلبه. شخص يذكّرك، بكلمة بلفتة بنظرة بصمت، بأنّ حياتك إنّما موطنها رحابة القلب. شخص يعترف بأنّ الله وجدك، أي يؤمن بوجودك. ثمّ التقيت به، مرّةً ثانية، بعد سنوات طويلة، في ندوة حول أحد كتبه (النضال اللاعنفيّ: ملامح وصور) ارتأى الإخوة في "تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة" أن تكون لي مداخلة فيها. وأسرني، في هذا اللقاء الثاني، ما قاله أخيرًا بنعومة خلاّبة لا تخفي العمق الذي انطبع عليه. وإلى اللقاءين، هناك الأخبار التي تعمّر قلوب إخوة فتنهم تواضع شخص يعرف، بعمق، أنّ ما من أحد يقدر على أن يرى الله، ويبقي رأسه مرتفعًا. فالفضيلة قاعدتها رؤية. إذ ليست المسيحيّة، في جوهرها، فكرًا مجرّدًا واجترار فكر. المسيحيّة هي أن ترى الله عن يمينك، ويحنيك مجده. وبعد هذا يكون الفكر.
لا نريد، في هذا العدد الخاصّ، تمجيد شخص يعرف الكثيرون صعوبة قبوله أن يتكلّم أحد على بشر. نريد أن ندلّ على الله فحسب. فالمسيحيّة العريقة العميقة الغور، التي تأبى أن يُمتدح لحم ودم، يسمح حقّها بأن يُدَلّ على الفضائل التي يمنّ الله بها على المنحنين لمجده. العدد، من هذه الوجهة، كلام على الله المنعم فحسب. وهذا، الذي نقوله بتأكيد شديد، يريحنا نحن قَبْلَ أيّ شخص آخر. إنّه كلام على الله الذي "كلّ كلام بغيره لغو". إنّه شكر له أنّه يرينا نفسه بيننا في وجوه إخوة أحبّة كثيرين. يرينا، أي يذكّرنا بأنّه يحبّنا دائمًا، وأنّه يريدنا كلّيًّا له. وإذ نذكر هذا، نستغفره على خطايانا الكثيرة، ونرجو منه أن يسامحنا، وألاّ يحرمنا أن نراه.
إن كان يحقّ لي أن أتكلّم على أمر في مَنْ يأخذنا ذكره، فيعنيني ذكر ما هو معروف، أي ثباته في محبّة الله وشعبه. فأخونا لا بدّ من أنّه عاصر أشخاصًا كثيرين، وشاهد سقوط إمبراطوريّات التزام عديدة، وتغيير مواقف نحو الأسوأ! لا، لست أستعمل من نتكلّم على الله عبره، لأقول أشيائي. فعندي، ما من شيء يجب أن يأخذنا، في جماعة الإخوة، كما الثبات الراضي. والثبات، معنًى، هو أن تبقى، فاعلاً، في موقعك، مهما كانت دوافع إحراجك فإخراجك! وربّما تخال أنّ الدوافع كثيرة. وربّما تكون هكذا فعلاً! فأنت، ثابتًا، تأتي من محبّة الله الثابتة. ثمّة عواصف عديدة في العالم. عواصف من الداخل ومن الخارج. كيف لا تهوي؟ كيف لا تتغيّر؟ كيف لا يُقصف عودك؟ أسئلة لا يمكن أن يكون لك عنها جواب صحيح سوى في بركات وعيك أنّ الله جعل نفسه فيك وفي مَنْ قبلوا حبّه. ويجب أن يعنينا الثبات، تاليًا، لكون كلّ ما نفعله إنّما يراه، إلى الله، من معنا وإلينا. فأنت، في كلّ حال، تحت رؤية. وقد يراك الأقوياء، فـ"يمجدّون الله في أمرك"، ويزيدونك قوّة. وقد يراك الضعفاء، وشأنك أن تقويهم. مَنْ فهم الالتزام على قاعدة أنّه "قصبة تهزّها الريح"، أو أنّه مرحليّ، فهو لم يلتقِ بالله يومًا، ولم يُحنه حبّه المجيد. لستُ أقول هذا بهدف إدانة أحد، حاشا!، بل بهدف الشهادة للحقّ الذي محبّته لا تتغيّر.
هذا العدد نرفعه قربانًا إلى الله عن أخٍ كبير كتب محبّة الله على قلوب كثيرة قَبْلَ أن يكتبها على ورق.