يترفّع بعضنا على غيرهم بما حصّلوه من غيرهم. فثمّة، للأسف، بعض إخوة قد فقدوا ذاكرتهم باعتقادهم أنّهم نزلوا من بطون أمّهاتهم كبارًا في النعمة والحقّ.
أمّا استقامة الحياة في جماعة الحقّ، فتوجب أن نذكر، دائمًا، أنّ المسيحيّة تأبى أن يترفّع أحدنا على غيره، صغيرًا كان هذا الغير أو كبيرًا. كيف أحوز هذه الاستقامة؟ أحوزها، أوّلاً، بدوام تذكّري أنّني ربيب إخوة معتبَرين تعبوا عليَّ يومَ كنتُ لا أنفع بشيء. هذا، بحدّ ذاته، قادر على أن يعلّمني أن أنظر إلى الدنيا نظرةً واقعيّة. فالدنيا، وتاليًا الكنيسة، لا تخلو من ضعفاء وخطأة. ودائمًا، "أنا أوّلهم". واستقامتي تفرض عليَّ أن أبقى أذكر مطلعي، أي أن أبقى أحجّ عن النظر إلى ما أحسب نفسي عليه، وأذكر مطلعي، بإخلاصٍ، ما حييت. وبهذا المعنى يجب أن أقرأ قول الربّ لملاك الكنيسة التي بأفسس: "ولكنّ مأخذي عليك هو أنّ حبّك الأوّل قد تركته. فاذكر من أين سقطت وتب واعمل أعمالك السالفة، وإلاّ جئتك وحوّلت منارتك عن موضعها، إن لم تتب" (رؤيا يوحنّا 2: 4 و5). فالربّ، كما يمكن فهمه، لم يوبّخ هذا الملاك (أسقف كنيسة أفسس) على مخالفته ما كان عليه يوم بدأت مسؤوليّته فحسب، بل على مخالفته منشأه أيضًا (والأفضل أوّلاً بدلاً من أيضًا)، أي على مخالفته الله الذي رفعه من الحضيض إلى بركات حبّه المجّانيّ، أو مخالفته تعبَ الجماعة الكنسيّة التي بعثته على التزام الحقّ وتاليًا خدمة الحقّ.
أن أنسى مطلعي، لهو أن أنسى كلّ شيء، لهو أن أفقد ذاكرتي. وهذا هو منتهى الجهل في كنيسة لا يحتمل حقّها أن يتسرّب إلى أعضائها أيّ لون من ألوان الجهل. لا أريد أن أعمّم ما اختبرته، ولو أنّني لا أرى نفسي أجانب الواقع إن تكلّمت باسم إخوة كثيرين أعرف بعضهم. فإنّني، وبثقة أضيف: إنّ كثيرين غيري، لم يحضّنا على التزام الكنيسة من كانوا سبب وجودنا الجسديّ في هذه الأرض. من حضّنا، كانوا إخوة أرادونا أن نقتنع بأنّنا، بعيدًا من حياة الكنيسة، إنّما نحن "هباء تذروه الريح". وهذا، الذي لا أقوله انتقادًا لمن هم سبب وجودي ووجود غيري، أبسطه شهادةً لله الذي حكم أن يكون لنا مرشدون كثيرون، يمكنني أن أسمّي بعضهم، باعتزاز كبير، آباء حقيقيّين. أي أبسطه فيما يأخذني وصفُ الكنيسة التي يجب أن نبقى عليها دائمًا.
ثمّ من روح الالتزام الكنسيّ أن أعتقد أنّ من ربّاني إنّما هم كثيرون. ولا يعيبني أن يكون بعضهم أشخاصًا لم يُنصفوا قلوبهم بالتزام الحقّ، أي أشخاصًا وُجدوا، في الجماعة، بالمصادفة، ولم يقدروا على أن يحوّلوا المصادفة إلى حدث. فهؤلاء، أيضًا، فضلهم على قلبي كبير. ولا أعظّم فضلهم، وفي بالي أنّ ما رأيته فيهم هو ما دفعني إلى أن أبتعد عن مرارته، فهذا يحمل إدانةً مُنعنا حتّى من التفكير فيها، بل إنّما أقول، بصوت واثق، إنّ وجودهم ساعدني على أن أكتشف ما زرعه الله فيَّ من خيره العامّ. فأنا ما كان لي أن أعرف كلّ ما فيَّ من دونهم. هؤلاء درّة ثمينة، ولو سكنوا وهد هاوية من دون أن يتعبوا أنفسهم بقبول الخروج منها. وهذا يجعلهم، لا سيّما في عينيَّ، نور عينيَّ. فهؤلاء جميعًا، أيًّا يكن قربهم أو بعدهم، هم إخوتي. وقيمتي إنسانًا أن أدرك أنّني أخ.
هذا الإدراك يرميني على وجع الحاضر كما لو أنّ هذا الوجع نزيل قلبي. فمن عمق الوعي أن أعرف أنّ التزامي، وتاليًا سعيي إلى ازدياد وعيي، لا قيمة له من دون خدمة فرح الآخرين وكبر الآخرين وثبات الآخرين. لا يحقّ لي أن أقيس الناس بمنزلة ما أحسبه قياسي. أنا، إن لم أعرف أنّني عضو في جسد الربّ، بهذا الالتحام السريّ الكامل الذي يجعل كلّ أخ "لحمًا من لحمي وعظمًا من عظمي"، أرمِ نفسي، بإرادتي، خارجًا عن خلاصي. أن أعتبر نفسي شيئًا، (وأنا لست بشيء)، لهو أن أعترف، في قرارة نفسي وعلنًا، بأنّ ما أنا عليه إنّما بنعمة الله. "ولكن، بنعمة الله أنا ما أنا" (1كورنثوس 15: 10). فليس من وعيٍ يكمل إن أهملتُ هذا الاعتراف المحيي. والنعمة، التي تعني أنّني نلتُ ما لا أستحقّه في معموديّتي وفي مسرى التزام إخوتي لي، تعني، أيضًا، أنّ بقاءها فيَّ إنّما هو نعمة لا أستحقّها. فأنا، أمس واليوم وغدًا، غير مستحقّ. والويل لي إن تسرّب إليّ شعور بأنّني مستحقّ شيئًا. الويل لي إن رأيتُ نفسي شيئًا بقدرتي الذاتيّة. الويل لي إن لم أرَ رحمة الله الذي يلطف بي كثيرًا. الويل لي إن نسيت أنّه منعم عليَّ، أو نسيت، ولو للحظة، تعب إخوتي عليَّ. الويل لي إن جعلت تعبهم يذهب هدرًا بإهمالي التمثّل بهم فيما كنت غير مستحقّ، وفيما ما زلت. الويل لي إن فرزت الناس بين مستحقّ وغير مستحقّ. والويل لي إن ترفّعت على خدمة غيري، أيًّا يكن.
عصب حياتي في المسيح أن أعرف أنّ لي موعدًا مع الرفعة لمّا يحن، وربّما لن يحين لي. وهذا يلزمني أن أجتهد بإخلاص دائم، وأن أبذل نفسي، حتّى يرتفع الكلّ، إن أمكن. فليس لي أن أرجو الرفعة إن لم أرَ نفسي "أينما حللت، أصغر الحاضرين وخادمًا لإخوتي" (القدّيس إسحق السوريّ، نسكيّات، المقالة السابعة). هذه رؤية عمري، اليوم وغدًا، إن زادني الله عمرًا، حتّى أستحقّ تعب إخوتي، وربّما ربّما يتحقّق موعدي.