رسم الكاتب الروسي فيودور دوستويوفسكي بريشة الفنّان "فامبريك بلادلست"
في مذكّراتها، كتبت آنّا غريغور ريفنا زوجة الكاتب الروسيّ فيدور ميخايلوفيتش دوستويفسكي: "قرأ زوجي البلاغ (بلاغ ١٢ نيسان ١٨٧٧ عن بدء الحرب الروسيّة العثمانيّة)، وأمر الحوذيّ أن يمضي بنا حالاً إلى كاتدرائيّة قازان. كان فيها جمعٌ من المصلّين. ذاب دوستويفسكي بينهم. كنت أعرف أنّه، في المناسبات المشهودة، يفضّل الصلاة في ركنٍ منزوٍ هادئ، من دون أن يراه أحد من معارفه. فتركته وشأنه. وبعد نصف ساعة، مضيت إليه، فوجدته يبتهل في تأثّر وذهول، حتّى إنّه، للوهلة الأولى، لم يعرفني".
قَبْلَ أن أعلّق على هذه الشهادة، أودّ أن أعلن عن تأثّري بها، تأثّري وانذهالي! ولا أختلس موقعًا، أعرف أنّه ليس لي، إن قلت، بثقة تقنعني، إنّني أعلم أنّ فيدور دوستويفسكي، الذي يجمعني به وبصفحات رواياته علاقة ودّ قديم، رجل يلتزم الربّ دينًا. لا، هذا ليس رأيي فحسب، بل قناعة كلّ مَن أدركوا، عبر قراءتهم إرثه، أنّه، كاتبًا عالمًا بتفاصيل إيماننا الأرثوذكسيّ، شأنه الأعلى أن يجعل من سطوره الوضّاءة دربًا يعبر فيه الله، أو كلمته أو تراث كنيسته، إلى أيّ قارئ يعي، أو لا يعي، أنّ له موعدًا مع الحقّ!
أمّا هذه الشهادة التي نقلتها، فعنه مباشرةً. بلى، قال علماء كبار، درسوا فكر دوستويفسكي، إنّه، في هذه الرواية أو تلك، قصد أن يتمثّل بعضًا من هذه الشخصيّة أو تلك. وعلى أنّ الصفحات هي واضعها، نحن، في ما نقرأه هنا، لسنا أمام دراسة أدبيّة، بل أمام شهادة دقيقة، شهادة زوجة "تعرف".
إذًا، إنها شهادة زوجة تعرف. كانا معًا. كانا، في العربة، في شارع نيفسكي. وكانت ثمّة زحمة كبيرة حول باعة الجرائد. توقّفت العربة. نزلت هي، وشقّت طريقها بين الجموع. واشترت جريدة. قرأ زوجها خبر الحرب التي نشبت بين الدولة العثمانيّة وقوّات التحالف الأرثوذكسيّ الشرقيّ بقيادة الإمبراطوريّة الروسيّة (١٨٧٧- ١٨٧٨). ومن فوره، طلب أن يُذهب به إلى كاتدرائيّة قازان. وذهبوا. هذا ما جرى. روت. لم تقابل بين ما فعله زوجها ومـا قـد يفعله (أيّ كاتب) آخر في مثل هذا الوضع. لم تتباهَ بتميّز زوجها في التقوى عن كلّ مَن تعرفهم أو لا تعرفهم. لكنّ روايتها لا تمنعنا من أن نسأل أنفسنا، أيًّا كنّا، ولا سيّما إن كان لنا ما نكتبه أو نرويه، مَن منّا يعنيه أن يصلّي؟ من منّا، في الملمّات التي تمرّ بها بلاده (أو في السلام)، يهدأ، مثل دوستويفسكي، إلى زواية في إحدى الكنائس (أو في مخدعه)، و"يسكب نفسه أمام الله"؟ ألا نعرف كتّابًا، جعلهم الوهم يصدّقون أنّهم ذوو فكر، لا يوفّرون مناسبةً من دون أن يهزأوا بالله أو بالمؤمنين به أو بتراث كنيسته؟ لا أعني أنّنا شعب نميل كلّنا بأجمعنا إلى الاعتقاد بأنّ ثمّة قرابةً بين الثقافة والإلحاد أو الكفر، بل أنّنا، قليلاً هنا وكثيرًا هناك، بتنا نحسب أنّ العلاقة بالله، أو الشهادة لمجده، هي دلالة على التخلّف!
هذا الكاتب، الحرّ من كلّ غباء يغرينا أن نبرّره، تدلّنا شهادة زوجته فيه على أنّه كان رجل صلاة، كان "كلّه صلاة". فقولها عنه: "كنت أعرف أنّه، في المناسبات المشهودة، يفضّل الصلاة في ركنٍ منزوٍ هادئ"، لا يعني أنّه كان يصلّي في المصائب حصرًا، بل أنّه كان يصرّ على الانزواء في أوانها. وهذا، إن دلّ على شيء، فعلى أنّ دوستويفسكي لم يكن يأتي من نفسه، بل من إله حيّ يؤمن بأنّه يعوَّل عليه وعلى معونته المخلِّصة دائمًا. أحببت أنّ آنّا غريغور ريفنا وصفت دخول زوجها كاتدرائيّة قازان بقولها إنّه ذاب بين جموع المصلّين. هذا يرشدنا إلى مفهوم الاختلاء، أو طلب الوحدة بالله، وفق ما يتميّز به إيماننا الأرثوذكسيّ. إنّه ليس انعزالاً عن الناس أو عن مشاكلهم (فلنذكر أنّ ما حضّ دوستويفسكي على هذا الانزواء إنّما خبر حرب)، بل هو حمل دائم للكنيسة وللعالم فيما يُقصد التقرّب من الله وحده.
هذا يقودني إلى أن أشرف على خاتمة هذه الشهادة. وما يعنيني من هذه الخاتمة أمران، يتعلّقان بالصلاة، ينفع حفظهما جماعة المؤمنين. أوّلهما قول واضعتها إنّها تركت زوجها نصف ساعة في كنيسة قازان. لم تقل: نحو نصف ساعة، بل حدّدت ما أرادته بدقّة. قالت: "وبعد نصف ساعة". أمّا المفارقة، فإنّها، بعد انقضاء هذه المدّة، أتت إليه، ووجدته ما زال غارقًا في صلاته. الصلاة يفسدها التململ، يفسدها أن نحسب الوقت الذي نقف فيه أمام الله! وهذا، إن أصابنا، خطر يشـوّه حيـاتنـا فـي المســيح. لا نقــدر علـى أن نحـبّ الـله والعالم في آن. التململ دلالة بليغة على أنّنا لا نرغب في أن يكون التقرّب من الله هو هدف حياتنا الأعلى، بل الحياة الدنيا. نأتي إلى الله فيما تأخذنا أمور أخرى، أمور نحن نجعلها ذات قيمة!
أمّا الأمر الثاني الذي ينفعنا في هذه الخاتمة، فقولها عنه إنّه، لمّا أتت إليه، "للوهلة الأولى، لم يعرفني". كيف لإنسان، في كامل قواه العقليّة، أن يرى زوجته من دون أن يعرفها؟ كان دوستويفسكي، فيما يصلّي، يرى الله وحده. هذا، أيضًا، لا يعني أنّ الصلاة هي إنكار للمودّات التي نختارها، وتغني علاقاتنا الإنسانيّة، بل دلالة على مصدر كلّ مودّة وكلّ ما نرى لنا فيه غنًى. أحبّ أن أعتقد أنّ آنّا غريغور ريفنا، في هذه العبارة، أرادتنا أن نفهم أنّ ما يجمعها بزوجها أعمق من كلّ لحم ودم. ما يجمعهما، بل مَن يجمعهما إله ينتظرنا دائمًا. وهذا، حتّى تذكره بثقة، يعني أنّه كان يرضيها، بل كانت تسهم فيه. فغنى الزوجين، غنى أيّ زوجين، أن يحبّ كلٌّ منهما أن يحبّ الآخرُ اللهَ حتّى الثمالة، ويدعمه في حبّه.
هذه المذكّرات زادتني اقتناعًا بأنّ دوستويفسكي، مثل صفحاته، كانت له مواعيده مع الحقّ!