هذا شعر محض لمن حرّكه الشعر. ولكنّ إيليّا متري لا يأبه للأدب. حسبه أن ينام بين كلماته إلهه، وأن يُغرى الناس بوجه هذا الإله، ليخلصوا. هذه دعوة إلى الخلاص بلا سبك وعظ. الكاتب يعظ نفسه، وينكسر عند الكلمات التي ينزلها ربّه عليه. فإنّه ملتمس الرضاء، وإنّه يستغفر، علّه يجد في الغفران سلامه.
من هنا وجعه حتّى ينكشف له ربّه واحدًا أحدًا، بحيث لا يداخله طيف. والله ليس فيه ظلال، إذ يعمّد بالنور أحبّاءه، فيجعلهم قامات ضياء أمام وجهه. كذا تكون المشاركة داخل السماء حتّى "تزول هيئة هذا العالم"، ولن يكون الليل.
كلّ ما في هذا السفر خروج إلى القيامة مقولاً بمئة طريقة وطريقة في ظاهر اللفظ. وليس يريد الأب إيليّا القيامة التي نرجئها جميعًا، ولكن تلك التي كانت ترائيات السيّد لنا في هذا الإنجيل الحيّ الذي لا يزول، ومن هذه الترائيات، التي نتلوها في سحر الآحاد، نحيا.
وإذا ذقنا هذه التلاوات صبيحة الآحاد، في عبادات ولا أبهى، لتأوّن فينا، ونعطيها أضواء ما دمنا على الوفاء والطاعة، ثمّ نجيء ممّا أعطينا، ويجيء محبّو يسوع بعضهم من بعض، وإذا هم التقوا يقرأونه مباشرة، أو مرتسمًا على كلّ وجه.
وهذا، الذي انسكب في داخل الكاتب، يرفعه نجاوى إلى من أوحاها إليه، فإنّ من أعطي له هو فقط مطلق للنجوى. وكما سكنته يرجعها إلى صاحبها بلين ورفق وبلّوريّة وطراوة تخرج من فمه، قبل أن تنزل على الورق، في رهافة مذهلة هي ينبوع ذلك الأدب الذي جعلني أقتنع أنّ الفرح، وليس فقط الألم الضاغط، مصدر للإبداع أيضًا.
يتعب إيليّا متري من نفسه ومن خطاياه، ولا يرتاح إلاّ إلى من نجد راحة لنفوسنا عنده. ويروقك أن يتمازج، في هذه الكتابة، كلمات الكتاب الطيّب وكلمات المؤلّف الذي تحسّ أنّه يكاد يندم أنّه استخدم كلمات من عنده خشية أن يزيد على الله قولاً. وعلى علمي أنّ ما نكتبه مخلوق، إلاّ أنّي أحسّ، مع بعض الكتبة، أنّ ما قيل، أحيانًا، ليس كلّه نحت بشر، لأنّ روح الله كان يرفرف على قلمك قبل أن تسود به الصفحات.
المهمّ أنّ هذه القصائد إنّما تعيدك إلى أسلوب نشيد الأناشيد، ولو أنّ الكاتب ذكره قليلاً. ذلك أنّ النشيد هو ما تاقت إليه الأسفار جميعًا، لأنّه كلّه أغنية حبّ لهذا الذي يستحقّ، وحده، أن يُحبّ.
أنت تجد نفسك في هذه القطعة، أو تلك، أو في قطع كثيرة، إذا مررت بالأحوال التي مرّ بها الأب إيليّا. أعرف أنّه يكره أن يسمّى أديبًا، لأنّه لم يقصد جمال المكتوب. كذلك لم يعرف كبار من كتب الأيقونة أنّهم أهل فنّ. حسبوا أنفسهم أهل صناعة. لعلّ من أجمل ما عند الكاهن أن يعتبر نفسه مفوّضًا الوعظ، وقد يأتي الوعظ أخّاذًا. ليس له في هذا شأن.
أنت تتعذّب وتتعزّى وتكتب نجاوى، لتقول لله، بكلمات موضوعة، التوبة التي تقت إليها. ما يحلو لك، إن قرأت هذا السفر، أن ترى نفسك أعظم حبًّا للمعلّم، وقد يدفعك هذا الشعور إلى أن تبقى كذلك خشية من إلهك، أو التماسًا لوجوه القدّيسين. إذا استطاع هذا الكتاب أن يقيمك في هذا، يكون إيليّا متري قد أطاع ربّه، ومكّنك ممّا يشتهيه لك ربّك.
جاورجيوس (خضر)
مطران جبيل والبترون