يظهر اسم مريم المجدليّة، "التي أخرج منها الربّ سبعة شياطين"، في خاتمة الأناجيل، أي عند الصليب، وعند دفن يسوع، وأمام القبر المفتوح، فتكون هذه المرأة هي أوّل مَنْ رأى يسوع القائم من بين الأموات (متّى 27: 56- 61، 28: 1- 10؛ مرقس 15: 40 و47، 16: 1- 9؛ لوقا 24: 10؛ يوحنّا 19: 20، 20: 1، 18). لوقا الإنجيليّ، وحده، يضيف إلى هذا الظهور ظهورًا آخر قَبْلَهُ، يكشف فيه أنّها كانت إحدى النساء الكثيرات "اللواتي كنّ يساعدنهم (يسوع وتلاميذه) بأموالهنّ" (8: 2؛ وهذا يورده مرقس في النهاية 15: 40).
هذه المواقع تبيّن أنّ مريم المجدليّة لم يقتصر ذكرها على مراقبة الأحداث من بعيد، بل تظهرها، قائمةً في صميمها، تسمع وتقول. وإذا أصغينا إلى ما سمعته وقالته (في الأناجيل)، فنعلم أنّ الربّ، الذي أهداها تطهيرًا من قوّة الشيطان (التي يرمز إليها الرقم سبعة المبيَّن)، وهبها، واقعيًّا، ما جعلها شاهدةً أساسيّةً على حدث انتصاره على الموت. ماذا سمعت المجدليّة وماذا قالت، هذا ما سنحاول إظهاره، لنتعرّف، ممّا لفظته هي، إليها عن قرب نرجو أن يساعدنا على أن نقتفي أثر محبّتها للربّ.
إذًا، تسجّل المواقع الظاهرة أقوالاً سمعتها المجدليّة من ملائكة أو من فم الربّ مباشرةً، وأخرى لفظتها جهارًا أو شاركت فيها. من الملائكة سمعت: "لا تخافا أنتما (هي وامرأة أخرى). أنا أعلم أنّكما تطلبان يسوع المصلوب. إنّه ليس ههنا، فقد قام كما قال. تعاليا فانظرا الموضع الذي كان قد وضع فيه. وأسرعا في الذهاب إلى تلاميذه، وقولا لهم: إنّه قام من بين الأموات، وها هوذا يتقدّمكم إلى الجليل، فهناك ترونه. ها إنّي قد بلّغتكما" (متّى 28: 5- 7؛ قابل مع مرقس 16: 6 و7؛ لوقا 24: 5- 7). و"لماذا تبكين، أيّتها المرأة؟" (يوحنّا 20: 13). وأمّا الربّ، فأسمعها: "السلام عليكما (هي والأخرى)... لا تخافا! اذهبا فبلّغا إخوتي أن يمضوا إلى الجليل، فهناك يرونني" (متّى 28: 9 و10). و"لماذا تبكين، أيّتها المرأة، وعَمَّن تبحثين؟". وناداها باسمها: "مريم!". وأردف، توًّا، بعد أن عرفته: "لا تمسكيني، إنّي لم أصعد إلى أبي، بل اذهبي إلى إخوتي، فقولي لهم إنّي صاعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم". ومن الأقوال التي لفظتها، أو شاركت فيها: "مَنْ يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟" (مرقس 16: 3). وقولها لسمعان بطرس والتلميذ الآخر: "أخذوا الربّ من القبر، ولا نعلم أين وضعوه" (يوحنّا 20: 2). وللملاكين اللذين رأياها تبكي: "أخذوا ربّي، ولا أدري أين وضعوه" (يوحنّا 20: 13). وللربّ الذي ظنّته البستانيّ: "سيّدي، إذا كنتَ أنت قد ذهبتَ به، فقل لي أين وضعته، وأنا آخذه". وله بعد أن كشف لها نفسه: "رابّوني!"، أي يا معلّم (يوحنّا 20: 15 و16).
أوّل عبارة، شاركت مريم المجدليّة فيها: "مَنْ يدحرج لنا الحجر عن باب القبر"، تذكّرنا بدفن يسوع، وتدلّنا على استقرارها ورفيقتيها في حدث الموت كما لو أنّه النهاية. ولكنّ العبارة تمدّ لنا أنّ المجدليّة هي واحدة مِمَّنْ كان إلحاح شوقهنّ أقوى من ضعفهنّ البشريّ. إنّها، في هذا القول الذي يمشي بنا إلى خبر الفصح، تبدو لا يعنيها الخوف والخطر اللذان كانا يلفّان كلّ مَنْ علموا بموت المخلّص. تريد أن تصل إليه، وتراه! لا يمكن أن يكون قد مرّ ببالها (أو بال اللتين معها) أنّ الربّ سيخترق الحجر. هذا، أي إزالة الحجر، سيكون لها هديّةً تنتظرها على باب قبر فُتح لها ولِمَنْ معها، ليكون، فارغًا، جوابًا أبديًّا!
أمّا الأقوال الأخرى، فتبدأ بما قالته لبطرس والتلميذ الآخر الذي أحبّه يسوع: "أخذوا ربّي، ولا أدري أين وضعوه"، وللربّ الذي ظنّته البستانيّ: "إن كنت أنت قد ذهبت به، فقل لي أين وضعته، وأنا أخذه". وهذان القولان الأوّلان يبديانها تأبى أن تتنازل عن جثمان المسيح. إنّه إصرار عروس نشيد الأنشاد التي كانت منشغلةً بالبحث عن عريس نفسها، فلم تجده (3: 1). في القول الأوّل: "أخذوا ربّي" (ربّي أنا، تقول لرسولين معتبَرين!)، وفي الثاني: "أنا آخذه". لم يسألها التلميذان: ماذا كنت تفعلين أمام قبر الربّ الذي طُيّب جسده قَبْلاً؟ تفهّما حنانها وتقواها، واندفعا يُسرعان الخطى، في إثر قولها، إلى القبر. وتاليًا لم يجبها الربّ: "أنّى لكِ أنت أن تأخذيني؟". رآها لا تستطيع أن تراه. هل بكاؤها الكثير أغلق عينيها، فظنّته البستانيّ؟ لا، ونعم. لا، لكون الربّ القائم عاد من غير الممكن أن يُرى، إن لم يكشف هو نفسَهُ أوّلاً. ونعم، لنبقى ننتظر كيف سيتعاطى الربّ مع دموعها وتوقها إليه. ونادها باسمها. وعلى إيقاع صوته، عرفته، ونادته: "رابّوني" (يا معلّم). وهذا آخر قول ظاهر لها هنا. لم تذكر الأناجيل أنّ يسوع نادى المجدليّة، مرّةً، باسمها قَبْلاً. لكنّها ذكرت أنّه فعل ذلك مع تلاميذ له آخرين. هنا، نادها، أي دعاها. ولذلك قالت له: "يا معلّم". باتت تلميذةً، رسولة (أو كما تسمّيها كنيستنا: "المعادلة الرسل"). وهذا أظهر يسوع مدلوله بتكليفها توًّا، أو فلنقل ما يناسب سياقنا: بإرسالها إلى تلاميذه (يقول لها حرفيًّا: "إلى إخوتي")، لتخبرهم عن صعوده إلى أبيه وأبيهم وإلهه وإلههم، أي لتقول لهم إنّ نعمة فصحه المجيد جعلتهم أولاد الله الآب الذي قال لهم يسوع، في خطبة الوداع، إنّه ذاهب، ليعدّ لهم مقامًا عنده (يوحنّا 14: 2 و3).
أن ينسب الإنجيليّون مريم، بتكرار ظاهر، إلى مدينتها المجدل الواقعة على شاطئ بحيرة طبريّة، أمر لا يعني، حصرًا، أنّهم أرادوا أن يميّزوها عن المريمات الأخريات، بل، أيضًا، أن يذكّرونا بالبيئة الأولى التي "تركت كلّ شيء، وتبعت الربّ". فمريم المجدليّة، أيضًا، جعلها الفصح من الذين اختارهم الربّ أوّلاً!