10أغسطس

محبّة الجِدّة

                منذ انطلاقة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في العام الـ1942، أخذنا نرى شبابًا أنطاكيّين يعقدون اجتماعات أسبوعيّة، يصلّون فيها معًا، ويدرسون فكر كنيستهم الجامع وسبل ترجمته، في حياتهم معًا، حبًّا وتعهّدًا ودعوة.

                طبعًا، هذا لا يعني أنّ التيّار النهضويّ اخترع حلقات التعليم في كنيستنا. فالكنيسة كان لها، دائمًا، أطرها التثقيفيّة والتربويّة والتعليميّة، ولا سيّما في الخدم الإلهيّة (الوعظ مثلاً). ونعرف أنّ "الصوم الكبير المقدَّس" جاء، في شكله الحاليّ، عمومًا، حصيلة إعداد الموعوظين الذين كانت الكنيسة تمهّد لمعموديّـتهم ببرنامج تعليميّ خاصّ. ولكن، أن يلتقي شباب في كنيستنا أسبوعيًّا (خارج الخدمة الإلهيّة) في وحدة ظاهرة، هذا، لعمري، أمر جديد علينا.

                لقد كُتب، مرارًا، عن أهمّيّة "الفرقة الحركيّة". ولست، هنا، بوارد أن أضيف شيئًا إلى ما كتبه مَنْ هم أجدر منّي. كلّ ما يعنيني تبيانه، من جديد، أنّ الفرق الحركيّة ليست جزرًا متباعدةً، بل هي مجموعات، تلتقي هنا وهناك، يجمعها نهج وحدويّ على غير مستوى، ولا سيّما ما يتعلّق بوعي انتمائنا الأنطاكيّ الواحد. هذا، في شكله، لا يشبهه أيّ تجمّع آخر ظهر، أو يُراد له أن يظهر. ففي أنطاكية العظمى اليوم، قومٌ يعملون مستقلّين عن التيّار النهضويّ، وآخرون (أسقف هنا وكاهن هناك) يسعون إلى أن يربطوا بهم كلّ تحرّك كنسيّ في المدى الذي كُلِّفوا خدمته. لسنا نحن مَنْ نعترف بحقّ كلّ مَنْ يعمل على نشر الحقّ، فنبدو كما لو أنّ "العمل مع الله" مسجَّل باسمنا حصرًا. لكنّنا نودّ أن ندعو إلى كلمة سواء كلَّ مَنْ يهمّهم مدُّ حياة الله في الأرض. وهذه دعوة تفترض، قَبْلاً، التذكير بأنّنا لا نعرف أنّ أحدًا من الجماعة الحركيّة عمل على إلغاء أيّ خير قائم. كان وعينا، وما زال، يحرّكه أنّ هذه الكنيسة الرائعة إنّما هي كنيسة الروح القدس الذي وهب كلّ عضو من أعضائها مواهب "لأجل الخير العامّ" (1كورنثوس 12: 7). وأمّا كلمة السواء، فهي أن ليس من شخص منطقيّ، في الكون كلّه، يشرّع له وعيه أن يرمي، من أمام عينَيْه، ما اختبر نجاحَهُ إخوةٌ له في سنوات طويلة، ليبدأ من نفسه!

                عندما ذكرت أنّ الفرق الحركيّة ليست جزرًا متباعدةً، كنت أردّد المعروف، أي أنّ هذا وعيٌ ثابتٌ في الجماعة الحركيّة. أساسًا، الإخوة الحركيّون لم يتركوا بابًا، يساعدهم على تمتين وحدتهم، من دون أن يطرقوه، ويفتحوه. ويكفي أن نذكر حياة الفرع الواحد، أو المركز الواحد، أو الأمانة العامّة التي تضمّ الكلّ مراكز وأسرًا وحلقات وأنشطة... ولكنّ ما ذكرته دفعني إليه إصرار مَنْ يصرّون، لغاياتهم، على الاستغناء عن النهج الحركيّ. هؤلاء يقول بعضهم إنّ اللقاءات، التي تعقدها الحركة، يمكن، مثلاً، أن يقود مثلَها كهنةٌ أنهوا دراستهم اللاهوتيّة. لا أعلم بما يوصف هذا القول الذي يختزل قضيّة النهضة بوجه من دون سواه! أمّا لِمَ لا يرون أنّ كهنتهم المتعلِّمين يمكنهم أن يساهموا في دفع ما تقوم به الحركة، فأمر لا يمكنني البتّ فيه. كلّ ما يمكن اشتمامه أنّ ثمّة جوًّا غريبًا، في ربوعنا، يريد الجماعة الحركيّة جماعة عوامّ حصرًا. هذا، الذي يغنّي موّالاً نافرًا لم تعرفه الأرثوذكسيّة يومًا، يوحي أنّ انخراط كهنة جدد في تيّارنا النهضويّ هو انخراط في غير موضعه. هل حجّة أرباب هذا الجوّ يبنونها على أنّ الكاهن رئيس في الجماعة، أي موقعه يمنعه من أن يكون واحدًا في جماعة الإخوة؟ بصدق، لا أعرف. ولأنّني لا أعرف، لا أستطيع أن أتكلّم على ما لا أعرفه. لكن، بعيدًا من أيّ مواربة، ما يجب أن يؤكّده كلُّ غيور لنفسه أنّ الحياة الكنسيّة لا تحتمل أن تكون، في أيّ شيء، جزرًا متباعدة. هل هذا يمنع غيورًا من أن يطمح إلى أن يؤسِّس عملاً جديدًا يوازي عمل الحركة في خبرتها وأصالتها وامتدادها ووحدتها؟ نظريًّا، لا. لكن، كيف يمكن أن يتمّ هذا العمل؟ هل على أنقاض الحركة؟ لست صاحب الطرح، لأعرف. أورد ما أورده، وحسبي أنّنا لم نسمع أنّ أحدًا نادى بمشروع آخر يضمن أن تكون له نكهة وحدوديّة جامعة. ومن دون اعتبار أنّ الحركة موئل كلّ عمل يعنى لا سيّما بأمر الشباب، ماذا يمنع صاحب أيّ مشروع "جديد"، إن وُجد!، من أن يعرضه على الجماعة الحركيّة؟ إلى الآن، هذا لم يحدث.

                أمّا إن وُجد حقًّا، فالظاهر، علنًا، أنّ تيّارنا النهضويّ، الذي هو من الكنيسة وإليها، أي وجوده مرتبط بوجودها، مفطور على محبّة المشاركة. فالحياة الكنسيّة يراها الحركيّون تخصّ الكلّ من دون أيّ استثناء أو تمييز. هم لم يعتبروا، يومًا، أنّ خبرتهم شأن مخصوص بهم. بلى، إنّهم يصرّون على ما كشفه الله لهم في أوان الرضى. وعلى ذلك، يعتقدون أنّ هذا الكشف يخصّ الكنيسة كلّها. تراهم، بوضوح ظاهر، لا يعملون كُرمى لأنفسهم، بل كُرمى لمجد الله وحده. ولا بأس إن قلنا إنّ العاملين الحقيقيّين في الجماعة الأنطاكيّة، أي الحقيقيّين حقًّا، لا يفوتهم أنّ التيّار النهضويّ، الذي يغازل السبعين سنة من زمن انطلاقته، لا يضعه عاقل على حِدَةٍ. هذا ليس استجداءً، وليس استكبارًا بشريًّا فارغًا لا قيمة له، بل إعلاء لقدرة لله التي لا تقاوم. تلك الأغنية التي يردّدها بعض، أي تنازلوا عن فرقكم وأسركم، أغنية شاذّة لن يُكتَب لها النجاح. مهما كانت آلات التبرير التي تعزف لحن هذه الأغنية، فستنهي ذاتها بذاتها، إن لم يكن اليوم، لا أتنبّأ إن قلت في وقت قريب جدًّا. فالحركة تيّار أهله محبّون، إنّما ليسوا بجهّال. لو كانوا جهّالاً، لَما أمّنهم ربّهم على خدمة بذلوا من أجلها كلّ "عتيق وجديد". ولكونهم محبّين، فلن يوفّروا جهدًا، ليدافعوا عن الكنيسة كما أرادها ربّها.

                كلّ مَنْ يأبى أن يركب ركب الجدّة، يمتطي فرسًا عجوزًا لا قدرة له على العدو. فلنحبب الجدّة.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content