سؤالٌ تجاريه أسئلة عدّة، أوّلها: لماذا نعترف؟ وليس آخرها: إلى مَنْ نعترف؟ وكيف نعترف؟ وواقع الحال أنّ الاعتراف، في الكنيسة الأولى، كان يتمّ علنًا أمام الجماعة كلّها، خصوصًا في حالة بعض الخطايا التي حدّدتها القوانين الكنسيّة، مثل: القتل والزنى وعبادة وثن، وذلك قبل أن يقرّر نكتاريوس بطريرك القسطنطينيّة (القرن الخامس)، ولأسباب رعائيّة، إلغاءَ وظيفة المؤدّب الكبير، الذي كان من واجبه "أن يعيّن نوع التأديب العلنيّ على كلّ خطيئة ارتكبت سرًّا"، وينحصر، نتيجةً لهذا القرار، الإقرارُ بالخطايا أمام الكهنة وحدهم. وكانت أولى غايات اعتراف الخطأة هي مصالحة الكنيسة. وهذا، بلا شكّ، لا يغيّره التطوّر الذي حدث لشكل الاعتراف - من دون أن نخلط بين الندامة العلنيّة التي لم يطل أمدها في الكنيسة وبين الاعتراف السرّيّ أمام الكهنة المرعيّة ممارستُهُ اليوم - بل إنّما تبقى مصالحةُ الجماعة، في كلّ حال، غايةً يتهيّأ لها مَنْ وعى، بعد سقطة، أن لا قيمة للحياة بعيدًا عن الله، وذلك بالطهر الكامل والرغبة الملحّة في سبيل العودة إلى الالتزام الجدّيّ في الحياة الكنسيّة. ولا يخفى على مطّلع أنّ قوانين التوبة المنسوبة إلى القدّيس باسيليوس الكبير، حافظت، نوعًا ما، على الجدّيّة الأولى التي كانت تسمح للخاطئ بتوبة واحدة، وذلك بأنّ باسيليوس وصل بمعاقبة الزناة - في بعض حالات الزنى - إلى منعهم من المشاركة في القدّاس الإلهي مدّةً تصل أحيانًا إلى خمس عشرة سنة.
ما هو شائع اليوم، في أوساطنا، أنّ الكثيرين لا يقرّون بخطاياهم أمام الكهنة، ولهم تبريراتهم وتفسيراتهم، وما يجعلهم يعتقدون أنّه لا يوجد، في الكنيسة، اعتراف. ولعلّ هذه القناعة تُوُصّل إليها نتيجة قلّة الأمانة وتسرّب بعض الممارسات الشاذّة كإبدال الاعتراف، في بعض الأماكن، بصلاة الحلّ من دون أن يسبقه اعتراف. وقد أكّدنا، في غير موضع، أنّ صلاة الحلّ من دون اعتراف ممارسة تشوّه سرّ التوبة، إذ "تفقده مركزه الحاسم والرهيب في الكنيسة"، وتجعل الاعترافَ، كما يقول الأب ألكسندر شميمن: "شكليًّا وشرطًا للمناولة". ولذلك دعوتنا اليوم أوّلاً إلى الكهنة الذين "تلقّوا سلطان الحلّ والربط" ألاّ يهملوا النور المعهود إليهم به. وذلك بأنّ وظيفة كلّ واحد منهم، في ما يخصّ معالجة الخاطئ وقبوله من جديد في شركة القدّيسين: "أن يأخذ بعين الاعتبار استعداد الواقع في الخطيئة وموقفه وأن يتحقّق من مقدار قبوله للشفاء، أو إذا كان سلوكه الشخصي قد أدّى إلى استيلاء الداء على نفسه، وعليه أن يدرس الخطط التي تساعده على العناية بتجدّد سيرته أثناء المعالجة. وكذلك يجب عليه أن يفحص لعلّ الخاطئ يقاوم معالجة الطبيب فأدّت العلاجات الموصوفة إلى تمكّن العلة ... فينظر إليه بالرحمة ويستعمل الأدوية الحكيمة وبمقدار، لأنّ الذي سلّمت إليه سلطة الرعاية ليردّ الخراف الضالّة... سيقدّم الحساب كلّه لله..." (راجع: القانون 102 من قوانين مجمع تروللو المنعقد في العام 692). ودعوتنا تاليًا إلى الشعب الحسن العبادة أن يرفض هذه الممارسة الشاذّة (أي صلاة الحلّ دون اعتراف)، ويهرب منها، ويقبل الأصل بلا خوف أو تلكّؤ أو تبرير، لأنّ "الحلّة الأولى" التي تشوّهها الرذائل واللهث وراء التفاهات، لا تُسترجع من طريق صحوة عاطفيّة ظرفيّة، ولا باللجوء إلى أشكال سِحْريّة وتمتمات كاهن لم يستمع إلى شكوى تائبٍ، بل بالإقرار العلنيّ الصادق بالخطايا في سبيل عيشة جديدة لا غشّ فيها ولا رجوع إلى الوراء.
لا شكّ في أنّ التوبة، موضوعيًّا، هي حالة دائمة يعرفها، ويفهمها، بشكل صحيح، مَنْ كان عضوًا حقيقيًّا في رعيّته، لأنّ الحياة الكنسيّة في كلّ وجوهها - الاشتراك بالأسرار المقدّسة، والإصغاء إلى التعليم الإلهيّ وطاعته في الحياة، وممارسة الصلوات والأصوام، ومعاشرة القدّيسين والأخوة الطاهرين، ومحبّة الفقراء... - هي الإطار الأمثل لرفض الخطيئة والشفاء منها وقبول وجه الله الحيّ وتفضيله على كلّ حضور العالم وإغراءاته. ولذلك كان مستهجَنًا، في تراثنا، تواترُ الاعتراف، أو ربطه بكلّ مناولة، لأنّه يتنافى وجدّيّة الحياة المسيحيّة، إذ يساهم في اجترار الشرور وفقدان الإحساس بالخطيئة. وقد بات واضحًا أنّ موهبة الذين يقودون الرعيّة، في هذه الحياة الجديدة، وأعني بهم الكهنة، هي أن يساعدوا الذي أخرجته الخطيئة خارجًا بالعودة الحقيقيّة إلى حضن الكنيسة. ولا ألازم هنا بين الاعتراف وكاهن الرعيّة، مع كوني أفضّله، لأنّ كاهن الرعيّة يحيا مع الناس وهو، على العموم، يعرف عيوبهم وضعفاتهم، وهو قادر، في حال صدقهم، أن يجد لهم السبيل ليثبتوا في الرجعة إلى الله. ولا شكّ أيضًا في أنّ اقترابهم إليه بالاعتراف يزيده وعيًا لأبوّته، ويجعله أكثر قربى ومودّة ممّن جرّحهم الشرير. لا بدّ من أن نعترف بأنّ الأب المعرّف البعيد مكانيًّا عن مكان سكن المؤمن لا يفيد، أو يتابع، بشكل صحيح، إلاّ الجدّيّين الأطهار، وهو عمومًا يفشل في توجيه مَنْ لا همَّ عنده إلاّ الانتساب إلى قامة روحيّة عالية وليس إلى القداسة كالتزام شخصيّ. ولا أقصد بأنّ كلّ كاهن رعيّة هو، بالضرورة، أب روحيّ. غير أنّه لا أحد يستطيع أن ينكر عليه حقّ الاستماع إلى الخطيئة ومباركة الرجوع عنها، والكهنة المتواضعون الذين يرون أنفسهم غير قادرين على إرشاد أبنائهم يوجّهونهم - أو هكذا يجب - إلى مرشد أرثوذكسيّ، ولا فرق إن كان هذا المرشد كاهنًا أم راهبًا أم علمانيًّا.
يؤثر البعضُ الاعتراف أمام الله وحده - وهذا موقف ساد بين الكاثوليك في القرون الوسطى (راجع: القانون 33 من قوانين مجمع شالون Chalon المنعقد في العام 813) - ويمتنعون عن الإقرار بخطاياهم أمام كهنة الكنيسة. الاعتراف أمام الله عمليّة ضميريّة وأوّليّة يحتاج إليها المؤمنون كلّ يوم، ونحن لا اعتراض لنا عليها، بل إنّما نشجّع على ممارستها. اعتراضنا على من لا يعترف، في الكنيسة، هو أنّه لم يفهم توزيع المواهب لما فيه بنيان جسد المسيح. أن تقول، مثلاً، إنّك كاذب، أو إنّك تغشّ في تجارتك، أو سقطت في علاقة غريبة... وتعترف بهذا أمام الله ونفسك - وعمومًا هذا صعب جدًّا - وتعلن بصدق قلب أنّك تبتغي التغيير، هذا هو بدء العلاج. وأمّا الإقرار بالخطايا أمام الكاهن فهو الأمر الهامّ الثاني، وذلك بأنّنا نأتي إلى الكاهن كما إلى طبيب روحيّ (كما يصفه مجمع تروللو)، فنكشف أمامه ضعفنا ورغبتنا في الإقلاع عمّا يعطّل نموّنا بالربّ، ويسيء إلى الجماعة المقدّسة. من المفيد أن نذكر أنّ الكهنة، في طقوس الكنيسة الأرثوذكسيّة، لا يستخدمون صيغة المتكلّم في منح الأسرار، وذلك لأنّ الله، في مفهومهم، هو الذي يمنح الناس عطايا، وتاليًا هو الذي يغفر، وأنّهم تاليًا، لا يقومون، في ما يقتبلون اعتراف الخطأة، بعمليّة إقناع بالتوبة، فالمؤمن يأتي مقتنعًا بأنّه خاطئ، ويرجو غفران الله ومصالحة الأخوة، أو الأفضل له ألاّ يأتي.
غنيّ عن البيان أنّ الأب المعرّف ليس مرشدًا اجتماعيًّا ولا محلّلاً نفسيًّا، ولذلك يجب أن نميّز بين مشكلة عاطفيّة أو زوجيّة أو خلاف على ميراث... قد تطرح عليه - وهو عمومًا غير معنيّ بهذه الأنواع من المشاكل، وقد لا يساعد على إيجاد حلّ لها - وبين الخطايا التي تصدر عن تعدّي الإنجيل واختيار العالم بديلاً من محبّة الله ومتطلّبات القداسة. ثمّة أمور جمّة طرحُها أو اختيارُها وطريقةُ طرحِها لا يفيد أحدًا، وقد تكون بحثًا خارج الموضوع. وباعتقادي أنّ رعاية الأشخاص، في الاعتراف، من طريق الصبر عليهم وتركهم يقولون ما يعتقدون أنّه يزعجهم أمر يسيء إلى التوبة، وهو، بكلّ تأكيد، لا يمتّن اقتناءها. مع العلم أنّ العلاقة بين شابّ وفتاة متحابَّيْن مزمعَيْن على الزواج قد يتشوّه مسارها، وقد يخطئان في الطريق، وأنّ المهاترات الزوجيّة والخلافات بين الأهل والأخوة قد تزكّي الانقسام، وتفقد المتخاصمين روح السلام، ما يفكّك الوحدة، ويجعل التلاقي بين أعضاء العائلة الواحدة أمرًا صعبًا. هذه الأوضاع - وغيرها - لا بأس أن نعترف بها، إن وعينا بأنّها تصدر عن إهمالِ كلمةِ الله كنبع للحياة الجديدة، وإثباتِ "الأنا"، ورفضِ الآخر أو إلغائه كآخر يساعدنا على تمتين القداسة.
بيد أنّ الاعتراف الذي يبني هو الاعتراف الصادق والمركّز على الرغبة الجديّة للإقلاع عن تشويه القداسة وإهمال المحبّة بكلّ أبعادها، ففي الحياة الكنسيّة لا مساومة على المقدّسات، والطهرُ مسؤوليّة كبرى ومشروع العمر. من هذا الفهم نأتي إلى الاعتراف، فلا نستعمله لنؤكّد قداستنا الشخصيّة، أو لنشتكي على غيرنا، ونتجنّب ترداد الخطايا ببغائيًّا واعتبار الشرور أمرًا طبيعيًّا. وما لا شكّ فيه أنّ الخطيئة الشائعة لا يُشرَّع لأحد ارتكابها، فالجماعة المقدّسة لا تقوم على العدد، ومن واجب كلّ معمّد أن يعي بأنّ كلّ المسيحيّة مطلوبة منه، وله وحده - على الرغم من كلّ الظروف المؤاتية أو المعاكسة - أن يقرّر القداسة، أو أن يرفضها.
مَنْ سقط في جبّ الفساد له أن يدرك أن الله قادر على أن ينتشله منه، إن هو رجع إلى قرارة نفسه، وقام إلى أبيه تاركًا طريق الموت إلى الأبد، فهناك المسامحة والحياة الحقّ، وهناك الجماعة المحبّة التي أعطيت قوّة القيامة المتدفّقة بالرّوح القدس.