أدعوكم، في هذه السطور العجلة، إلى أن نصغي إلى قصد بولس في قوله إلى كنيسة فيلبّي عن المسيح: "لِأَعْرِفَهُ…" (٣: ١٠). لِم هذه الدعوة اليوم؟ كنتُ، قبل أيّام، أبحث عن كلمة أقترحها، شعارًا للحياة والخدمة اليوم (ولكلّ يوم)، على بعض إخوة، شبابًا وصبايا، كنّا تواعدنا على أن نلتقي معًا، ووجدتُها أمامي. لم تكن الكلمةُ جديدةً عليّ. لكنّها أشعرتني بأنّها قادرة على أن تحوي في ذاتها حكاية الكلمة المجدّدة. أخرجتُها من سياقها إلى لقائنا!
لننتفعْ من إصغائنا لهذه الكلمة، تعالوا نُجرِ أوّلاً بعضَ حساباتٍ سريعة. يقول المفسّرون إنّ الرسالة إلى أهل فيلبّي كتبها بولس فيما كان مسجونًا في روما. على الأرجح، كان ذلك في مطلع العقد السابع من القرن الأوّل (العام ٦١- ٦٣). كان بولس قد اهتدى إلى يسوع ربًّا ومخلّصًا في لقائه به على طريق دمشق بعد صعود الربّ بنحو سنتَين أو أكثر بقليل. هذا ينيرنا إلى القول إنّ الرسول قال إنّه يطلب أن يعرف يسوع بعد نحو ربع قرن على الحياة معه. ماذا تقول لي نتيجة هذه العمليّة الحسابيّة؟ تقول لي ولكم: إن كان بولس صرف عمره في طلب معرفة يسوع، فلا معنى لحياتنا إن لم نسعَ إلى أن نعطّر أيّامنا كلّها، يومًا فيومًا، بطلب أن نعرفه. هل تسألون عمّا يساعدنا على اكتساب هذا العطر؟ الطاعة، طاعة يسوع. لم يقل بولس لأهل فيلبّي: "إنّني معلّمكم إنجيل الله. ولكنّي، في الطاعة، واحد معكم". ولكنّنا يجب أن نرى أنّ هذا ما قصده في كلمته، حرفًا حرفًا. الكلمة ملكة. تأمرنا أن نطيع الله أكثر فأكثر، لنعرفه أكثر فأكثر. في الكنيسة، لا أحد فوق الكلمة التي ليس مثلها شيء، بل كلّنا تحتها (أو هذا ما يجب)، كلّنا تحت هذه الرغبة في أن نعرف يسوع، كما لو أنّنا في سِحْر انتفاضة المحبّة الأولى. لنقل إنّ بولس اكتشف أنّه محبوب فعلاً على طريق دمشق في ذلك اليوم العظيم الذي سمع فيه الربَّ يسأله: "شاول، شاول! لماذا تضطهدني؟" (أعمال الرسل ٩: ٤). ولكنّه، في هذه الكلمة، كشف سرّه العميق. كشف أنّه باق هناك على طريق دمشق، يعطي أذنَيه لكلمات ليست مثلها كلمات، ويرى النور الذي ثبّت في عينَيه أنّه لا يحتاج إلى أن يرى شيئًا آخر! المحبّة الأولى كلّها أمانة.
إذا واصلنا إصغاءنا إلى هذه الكلمة الرسوليّة على ضوء حدث طريق دمشق، نسمع فيها أيضًا اكتشاف الرسول أنّه معروف. لا أحد يمكنه أن يحقّق هدف الكلمة، أي أن يعرف المسيح الحيّ، من دون هذا الاكتشاف. على طريق دمشق، ناداه يسوع باسمه القديم: "شاول"، وكشف له أنّه واحد مع الكنيسة التي كان شاول يضطهدها. إنّه معروف إذًا، معروف في تفاصيله، في ما سيقرّ في أنّه يعيبه في حياته كلّها. رأى بولس أنّه مطلوب فيما هو مجرم، فيما يعتقد أنّ قتل الذين يحبّون يسوع تسمح به "الغيرة على تقليد الآباء" (غلاطية ١: ١٤). ولكنّ الذي أراده أن يعرف جنّنه في أنّه، رغم كلّ شيء، اختاره لنفسه، رسولاً لخدمة مجده في هذا العالم.
هي كلمة واحدة تصلح دائمًا لأن ترسم حياتنا كلّنا، إنسانًا إنسانًا. كلّ إنسان محبوب. كلّ إنسان عرفه الله في بطن أمّه. هل تريدون أن تكتسب حياتنا معناها؟ لندع المسيح يؤكّد لنا أنّه يحبّنا. هذه الطريق، طريق دمشق، التي استوقف يسوع بولس عليها، هي طريقي وطريقك أيضًا. لا بدّ من أنّ الربّ استوقف كلاًّ منّا على طريق تشبه طريق دمشق. كان بولس استثنائيًّا في مراجعة نفسه، في قفزه إلى الطاعة، إلى العهد الجديد. قال بلحظةٍ: إنّ مَن له هذه القوّة عليّ يستحقّ أن أسعى إلى أن أعرفه. القضيّة كلّها هنا، في انكشاف الله الذي يريدني أن أكتشف أنّني محبوب.
هذه الكلمة، إن قبلنا رفقتها، لا ترسم لنا فقط أن نعرف الربّ، الذي انكشف أنّه يرغب في أن يكون معروفًا، في زماننا الحاضر، بل تعلّمنا أيضًا إن نرجو أن نعرفه في الآتي. هذا هدف صالح للحياة.
جميع الحقوق محفوظة، 2023