الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

"ليكنْ لكَ كما آمنت"

تضعنا القراءة الإنجيليّة، اليوم، في صلب رسالة الربّ يسوع. فيبدو جليًّا أنّ الربّ لم يأتِ إلى قومه فقط، بل أتى ليخلّص البشر كافّة من خطاياهم. فنراه هنا يشفي "فتى" قائد المائة بناءً على إيمان هذا الأخير. والمقصود بلفظ "فتى"، هنا، الغلام أو خادم البيت، فالإنجيليّ لوقا في سرده للرواية ذاتها يصفه بالخادم. بل يمتدح القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407) قائد المائة، فيقول: "لذلك يعجب يسوع بقائد المائة. يفضّله على كلّ الشعب ويكرّمه بعطيّة الملكوت. ويدعو الآخرين إلى الاقتداء بغيرته".

لم يكن قائد المائة من قوم الربّ يسوع، بل كان من الأمم. فجيوش الإمبراطوريّة الرومانيّة كانت محتلّة بلاد الشرق، ومن ضمنها فلسطين. وكان هذا الرجل ضابطًا لفرقة مؤلّفة من مائة جندي. كان مرؤوسًا ورئيسًا. فكمرؤوس كان مطيعًا، وكرئيس كان يصدر الأوامر. لذلك، أدرك أنّ الربّ يسوع يستطيع أن يشفي غلامه لمجرّد أن يأمر، وإن عن بعد، بشفائه. آمن قائد المائة بقدرة الربّ فطلب إليه اجتراح المعجزة، وهذا ما حصل، فشفي الغلام على الفور.

ينتقد القدّيس الذهبيّ الفم القائلين بأنّ قائد المائة قدّم اعتذاره للربّ يسوع عن عدم إحضار غلامه إليه، وذلك حين بادره بالقول: "يا ربّ، إنّ فتاي ملقًى في البيت مخلّعًا يعذَّب بعذاب شديد". ويعتبر الذهبيّ الفم أنّ ما قاله قائد المائة "سمة إيمان عظيم (وليس اعتذارًا)، أعظم بكثير من إيمان الذين دلّوا المخلّع من السطح (لوقا 5: 19). فقائد المائة عرف يقينًا أنّ أمرًا واحدًا يصدر عن يسوع كافٍ لإنهاض المريض، واقتنع بأنّ إحضاره معه غير ضروريّ".

عندما تعهّد الربّ يسوع بالذهاب إلى بيت قائد المائة ليشفي غلامه، أجابه: "يا ربّ، أنا لست مستحقًّا أن تدخل تحت سقف بيتي، بل قل كلمة لا غير، فيبرأ فتاي". ويعلّق المغبوط أغوسطينُس (+435) على هذا الكلام بالقول: "وبما أنّه رأى نفسه غير مستحقّ، فقد ظهر مستحقًّا أن يأتي المسيح لا إلى بيته فحسب، بل إلى قلبه أيضًا. لو لم يقبل في قلبه الداخل إلى بيته لما قال هذا بإيمـان عظيـم وبتـواضع. لا يكـون فـرح الـربّ يسـوع عظيمًا إذا دخل إلى بيت قائد المائة وامتنع عليه قلبه. فالمسيح سيّد التواضع في القول والمثال جلس في بيت سمعان الفرّيسيّ المتشامخ، ومع ذلك لم يجعل هذا الأخير للمسيح مكانًا في قلبه ليسند إليه رأسه".

يرى الآباء أنّ الملكوت ليس معدًّا للذين تسلّموا الشريعة والنبوءات أوّلاً، بل للذين ينتمون بالروح إلى بيت الإيمان طوعًا. فكلّ أمم العالم، كما تُرى رمزيًّا في قائد المائة، ستأتي وتؤمن إيمانًا عظيمًا. من هنا قول الربّ يسوع: "الحقّ أقول لكم إنّي لم أجد إيمانًا بمقدار هذا ولا في إسرائيل". وفي هذا الصدد يقول أغوسطينُس المغبوط: "ومع أنّ الربّ لم يدخل جسديًّا بيت هذا الرجل، إلاّ أنّ جلاله كان حاضرًا. فالربّ نفسه ظهر بجسده بين شعب عهده. لم يولد في بلد آخر، ما تألّم أو مشى أو عانى المعاناة الإنسانيّة أو صنع المعجزات في أمّة أخرى. ومع ذلك، عبر قائد المائة تمّت النبوءة التي تتحدّث عنه: شعب لم أعرفه يتعبّد لي. عند سماع الآذان يطيعونني (مزمور 18: 45)".

يثني الربّ يسوع على إيمان قائد المائة، الذي كان "من الغرباء من حيث الجسد، ومن آل البيت من حيث القلب". لذلك قال الربّ: "إنّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأمّا بنو الملكوت فيلقون في الظلمة البرّانيّة. هناك يكون البكاء وصريف الإنسان". وعلى السؤال: مَن هم بنو الملكوت؟ يجيب أوغسطينُس: "إنّ المسيح يتكلّم على شعب العهد (القديم) الذي تسلّم الشريعة، والذي إليه أرسل الأنبياء، وله أعطي الهيكل والكهنة. كانوا قد احتفلوا بصور الأمور الآتية. لكنّ هذه الأمور التي يحتفلون بها رمزيًّا لم يعترفوا بوجودها عندما تحقّقت أمامهم. إنّهم لهذا السبب يُطرحون في الظلمة البرّانيّة حيث البكاء وصريف الأسنان". ويختم أغوسطينُس بقوله: "يُطرح اليهود خارجًا، ويدعى المسيحيّون من المشارق والمغارب إلى المائدة السماويّة، ويجالسون إبراهيم وإسحق ويعقوب".

يبدو لافتًا كلام القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202) عندما ربط ما بين الحرّيّة البشريّة وقول الربّ يسوع لقائد المائة: "إذهبْ، وليكن لك كما آمنت". فيقـول إيرينـاوس: "يملـك البشر حـرّيـّة الإرادة منـذ البدء، والله يملك حرّيّة الإرادة التي خلقت البشر على مثالها. يتلقّى البشر دومًا النصح بالتمسّك بالصالح والاستجابة لله. لا بالأعمال فحسب، بل بالإيمان أيضًا صان الله حرّيّة الإرادة الإنسانيّة تحت عنايته. هذا ما يظهر من كلام يسوع إلى قائد المائة: إذهبْ، وليكن لك كما آمنت".

يدعونا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم إلى أن "نتعلّم الفضيلة" من قائد المائة، فضيلة التواضع، أمّ الفضائل كلّها. ويبقى أمر أخير، وهو أنّ المسيح قد شفى الكثيرين بناء على إيمانهم، غير أنّه هنا قد شفى غلامًا بناءً على إيمان صاحبه. من هنا، نقول لـمَن لا يؤمنون بالشفاعة، إنّ النصّ الإنجيليّ يرينا أنّ الشفاعة تفعل فعلها. فقائد المائة ابتهل إلى الربّ من أجل آخر، فاستجاب له الربّ. بالتواضع نقتني الملكوت.

شارك!
Exit mobile version