كلّنا رأينا أشخاصًا يبكيهم حزنهم. وربّما نكون، بمعظمنا، قد تعاطفنا مع حزانى قريبين أو بعيدين. ولكن، مَن منّا أدرك حزن مَن نكون نحن قد أبكيناه ظلمًا؟
هذا السؤال ربّما لا ينطبق على سوى أشخاص متقاربين (أهل البيت الواحد والأقارب والأصدقاء، مثلاً). فمن الصعب أن يقدر واحد على أن يُحزن شخصًا، غريبًا عنه، حزنًا يدفعه إلى البكاء. وبكاء القريبين مرارتُهُ تفوق كلّ مرارة. مرارتُهُ أنّ مَن تُحزنه ظلمًا، فتبكيه، قد يشعر بأنّك ترفضه كلّيًّا. يغضبك مثلاً، فتمطره كلماتٍ سوداء، فيشعر بأنّك تغيّرت، أو بأنّك غريب عنه، أو بأنّه لا يعرفك. مثلاً، ألم نسمع شخصًا قال لقريبه (أخيه أو زوجته!) بعد مشاجرة عنيفة: "أنا لا أعرفك!"؟
ليس في المسيحيّة من مكان لدفع الآخرين إلى البكاء ظلمًا. هذا أقوله فيما لا يخفى عن أحد أنّ ثمّة مسيحيّين، لا يُعدّون، لا يعيرون مقتضيات مسيحيّتهم أيّ أهمّيّة. بلى، جلّهم أخذوا منها ما يبديهم مسيحيّين. تعمّدوا مثلاً. ويأتي معظمهم إلى الكنيسة في أعيادها الكبرى، وفي مناسبات يعتبرونها تعنيهم. ولكنّهم، بمعظمهم، يحيون في العالم، كما سائر الذين لم يعرفوا الله أبا ربّنا يسوع المسيح. وقد تجد، بين الذين لم تتسنَّ لهم فرصة أن يعرفوا ربّنا يسوع، أشخاصًا يفوقون مسيحيّين كثيرين لطفًا وحُسنَ طويّة. والمضحك المبكي أنّك لا تقدر، أحيانًا، على أن تستثني من المسيحيّين الغارقين في وحل الأرض، مَن كانوا من أولي العلم في الدنيا. فثمّة أشخاص، برّزوا في العلم بروزًا كبيرًا، تراهم، في بعض مواقفهم، كما لو أنّهم أسرى جهل لا يُبرّر. فهذا يضرب زوجته، أو يعدو، كمراهق، وراء سواها. وذاك أعماه بخله. وآخر يعادي، أحيانًا العمر كلّه، أخوته على إرث مال أو حفنة تراب (وزد ما شئت من دون حرج!). وهذا، الذي يبيّن أنّ ثمّة بيننا مَن لم يلجوا عتبة كنيستهم حقًّا، يخجل الله قَبْلَ بشر.
من مقتضى أن تكون مسيحيًّا حقًّا هو أن تعرف أنّ مَن تجلب لهم الغمّ هم أنفسُهم سببُ فرحٍ لك (قابل مع: 2كورنثوس 2: 2). فأنت، في الدنيا، لا تقدر على أن تنتظر أن يأتيك الفرح من فوق الغيوم. الفرح لا ينزل علينا من الجوّ بقفّة، بل نلقاه لا سيّما في معيّة الذين يشاركوننا في هذه الحياة. وهذا، الذي يأتي من الله كلّيًّا، يجب أن يعني أنّ المسيحيّ هو مَن يعي أنّه مسؤول عن أن يبقى مَن يحيا معهم سبب فرح له. فقد ينازعنا شريكنا في الحياة (والمنازعة، في الحياة المشتركة، واردة). لكنّ المنازعة لا تسمح لنا بأن نختزل حياتنا بلحظة مخاصمة. ولا تسمح، تاليًا، بأن نتحوّل إلى قضاةٍ كلُّ شأنهم أن يطلقوا أحكامًا على مَن برأيهم قد أخطأ. ليس في الحياة المشتركة، اللَّهمّ وفق فكر الله، من إمكان أن يقاضي أحدٌ سواه (أي أن يطلق عليه حكمًا أخيرًا). هذا عمل الله وحده. بلى، ثمّة تذكير. وثمّة حضّ على الإصلاح. ولكنّ كلّ تذكير وإصلاح لا يمكن أن يستقيم إلاّ على قاعدة الوداعة. فالمسيحيّ لا يأتي إلى الآخرين "بعصًا، بل بالمحبّة وروح الوداعة" (1كورنثوس 4: 21). هل سمعتَ بإنسان، تعنيه سلامة قلبه، ردّ نصيحةً أتته من إنسان وديع؟ لا، لا يُختزل الشريك بموقف طارئ. ولا، لا تحتمل الحياة المشتركة أن نعلّي أخطاء الآخرين، لنمعن في مقاضاتهم. هذا تصرّف، إن لم يدمّر حياتنا، فسيجعلها جحيمًا. والحياة مرافقة، أي تشجيع واعٍ موصول على صحّة الحياة.
أمّا صحّة الحياة، فمقتضاها الوحيد معرفة الله. فالحياة الصحيحة هي "أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح" (يوحنّا 17: 3). معظمنا، بل كلّنا يمكننا أن نعرف أنّ ثمّة مشاكل تضرب الناس من دون استئذان. وهذه، مهما أُعطيت لها تفاسير تبريريّة (ظروف الحياة، الإنسان يتغيّر، نقص في الخبرة...) لا يمكن أن تغطّي أنّ الناس كثيرون منهم بعيدون عن الله مصدر خلاصنا جميعًا، أو تحلّ محلّها. مَن يعرف الله، أو قلْ مَن يؤمن بأنّ الله يحييه بنعمه، لا يستسهل أن يمرّر أحدًا ظلمًا. هذا، من دون إدانة، يعني أنّه لا يعرف الله، ولا يؤمن به حقًّا! أن نعرف الله، لا يؤكّده أمر كما أن نعامل الآخرين وفق ما نثق بأنّ الله يعاملنا به. مثلاً: إذا أخطأ مسيحيّ، فماذا ينتظر من الله؟ ينتظر، أو هذا ما يجب، أن يرحمه، ويفتح له دروبًا جديدة. وهذا، الذي لا يشكّ عاقل في أنّ الله يهبنا إيّاه كلّما طلبناه بصدق، ويهبنا إيّاه مجّانًا من دون أن نستحقّه، ينتظر الله أن يكون شأننا مع الآخرين، ولا سيّما إن رأيناهم يتهاوون أمامنا إلى قعر جبّ المعاصي. هذا لا يعني أنّنا، إن اعتنينا بأن نسلك مع الآخرين كما يسلك الله معنا، فلن نبكيهم. بلى، قد نبكيهم، وقد كثيرًا. ولكنّ هذا بكاء مبرور. هذا ربّما يفتح عيون مَن يحبّون الكلمة السويّة، وينقّي قلوبهم. لن نقدر، مهما فعلنا وجُلنا وتعبنا، على أن نسترجع صحّة حياتنا إن لم نبنِ حياتنا على الله الذي يريدنا أن نرى، في كلّ مَن جعلهم على دروبنا، سبب فرح لنا.
ثمّة كثيرون يبكون سواهم ظلمًا. هذا لا يكشف قيمة الإنسان ولا عبقريّته. ما يجعل الإنسان ذا قيمة حقًّا، هو أن يتجنّب أن يصلب الناس على خطاياهم. فكلّ مَن يخطئ، فعلاً، لا ينفعه سوى أن نبقى ثابتين على محبّته، لنساعده على أن يسترجع كلّ عافية تفيده، وتفيدنا أجمعين. هذا يبيّن أنّنا ندرك، فعلاً، ما زرعه الله فينا من قدرة على فعل الخير. وهذا يعطي الذين نعايشهم أن يخلعوا عنهم ثوب الحزن الذي يمزّق النفس، ويفرحوا بالله الذي يطلّ عليهم من وجوه ترضيه، ليبقى الفرح نصيب العالمين أبدًا.