22يوليو

لقاء حَلبيّ

دعاني الإخوة الحركيّون، في مركز حلب، إلى أن أكلّمهم على "السلام في الكنيسة". كان لقاؤنا في مدينة صافيتا، التي يرعاها ملاك عكّار، في فندق وادع يطلّ على قرًى من شمال لبنان. سحر هذه الإطلالة أنّها تنشد لحن اللحمة المتينة التي تجمع مدانا الأنطاكيّ. كنت أعرف بعضًا من الإخوة، ولا سيّما المسؤولين منهم. وأفرحتني وجوه لم أرها منذ ردح من الزمان. كان لقائي بهم قِصّة. وتهاوى الزمان كما لو أنّنا لم نفترق منذ لقائنا في تلك الحلقة الإرشاديّة التي أُجريت، في حلب، منذ ما يقارب العشرين سنة. وأخذتني وجوه "جديدة" أضاءها التزام حبّ "النهضة" الذي لا يشيخ.

الشيء الصارخ، الذي دعاني إلى أن أسرح في جنانه الريَّا، أنّ هذا الجمع الطيّب، الذي يضمّ نحو سبعين عائلة، كان منهم أطبّاء ومهندسون وأساتذة جامعيّون وإخوة يعملون في غير حقل. هؤلاء جميعًا تركوا مدينتهم، وأتوا، ليقضوا أيّامًا معًا يتدارسون فكر كنيستهم، ويحيون من طاعة ودّها. كلّ شيء كان منظّمًا. للكبار اجتماعاتهم وأنشطتهم. وللشباب برنامجهم ودورهم في رعاية الأطفال. وأمّا المائدة كما أوقات الأدعية، فتضمّ الجميع. بعض الحاضرين كانوا سلالةً كاملةً: أبًا وبنين وأحفادًا. إنّها صورة الجماعة الممدودة في تواضع سيّدها أبي الكنيسة وحده. ليس، هنا، للمراكز الاجتماعيّة مطرح. كلّ المطرح لِمَنْ يستحقّ أن ننحني إجلالاً لمجده، أي لله الذي أقنعهم بأنّ هذه الكنيسة الرائعة هي أمّهم التي ولدتهم في المسيح. أبناء كانوا. أبناء واثقون بأنّهم محبوبون. فالذين ذاقوا سكرَ أنّ ربّهم بذل نفسه عنهم دلالةُ محبوبيّتهم كاملة. ويطرب الوجه بالوجه، لتستقرّ الوجوه أمّةً لله واحدة.

كان حديثي موقّعًا قَبْلَ الظهر. وصلت إلى صافيتا قَبْلَ موعده بنحو ساعة. كانوا جميعهم يفطرون، صغارًا وكبارًا. وعلمت من بعضهم أنّهم شاركوا في الخدمة الإلهيّة التي أمّها مساءً سيّدُ الأبرشيّة التي كانوا نازلين فيها. وعلمت، أيضًا، أنّه خصّهم، بعد الخدمة، بحديث عن "المجمعيّة في الكنيسة". طعام سماويّ (قربان وكلمات) وقوت من الأرض يشدّدان كونهم "جسدًا واحدًا". ثمّ أخذَنا الكلامُ على "السلام". كنت أعرف لِمَ أرادوا أن يغوصوا في هذا العنوان. وجرى الحديث وفق رنين عنوانه. فللإخوة الحلبيّين جرحهم. وجرحهم هو جرح كلّ مَنْ يحبّ الكنيسة واحدةً في الحبّ الذي يجمع ولا يفرّق. قضينا ما يزيد على الساعة والنصف مستوطنين ما تكشفه "الخدمة الإلهيّة" عن السلام استدرارًا وتعهّدًا.

في أثناء ذلك، أمور عديدة شغلتني. وأعلاها أمر شيخ، كان يرافق الحاضرين، أراد، في أوان الأسئلة، أن يُستفاض في الكلام على مواهب الروح القدس. كنت معتادًا وداعة وجهه. وسحرتني من جديد. وعلى إيقاع أنّ الكنيسة كلّها مواهب، تتلاقى وتتساند وتتكامل، تبدّلت تعابير وجهه. حسبته يبتسم. وأخطأت في حسباني. فالوجوه، التي تبتسم، تنبسط من دون صوت. أمّا وجهه، فسقط حتّى بات لصيق صدره. غاب وجهه، وأصدر صوتًا خفيضًا لم أتبيّن نوعه فورًا. ثمّ رفع وجهه قليلاً. ولفح عينيَّ منظر بعض حبّات ماء تجمّعت في عينَيْه. إذًا، صوته أتى من عينَيْه! ما الذي يبكي شيخًا بهذه السرعة؟ سؤال لا أطرحه على نفسي! فضّلت أن أحيد وجهي عنه. كنت أوشك أن أشاركه في صراخ مقلتَيْه. ولكنّ عينيَّ أبتا. للعيون أسبابها! أمّا قلبي، فغرق في ألم عميق. لِمَ "شيوخ الكنيسة" يبكون؟ ما الذي يبكيهم؟ لا، لم يكن الرجل غريبًا عمّا وصل إلى مسمعه. الكلّ يعرف بروزه في علم كنيستنا. أساسًا، بعضُ مَنْ رأيتهم هناك كنت أفضّل أن أصغي إليهم، لا أن أخاطبهم. أحيانًا، تتبدّل المواقع. وانشغل داخلي في بكاء آلمني. كان فمي يردّ على بعض أسئلة أخرى، وداخلي يعتصره الألم. آه من الألم! لا أعتقد أنّ أحدًا لاحظ ما لاحظته، سمع ما سمعته، رأى ما رأيته. موقعي وموقعه يسمحان لي بأن أرجّح ذلك. رنوت إلى الرجل من جديد. ورأيته قد دخل في صمت مطبق. يبدو أنّه اكتفى بأن يبكي وحده. يبدو أنّه استغرق في حديث من نوع آخر. يعوز الأحاديث، دائمًا، هذا النوع من الاستغراق. ليست للأحاديث قيمة إن لم ترافقها "المياه" (ظاهرة أو مستترة). هذا ما كان رسول الأمم يفعله. ولكنّ بولس العظيم كان يتكلّم فيما يبكي هو (أعمال الرسل 20: 31). هنا، حالنا مختلف: آخر يبكي. لا بأس!، فالنتيجة واحدة. ثمّ تحوّل ألمي إلى فرح. وفهمت مصدر هذا التحوّل. لقد تعمّد اللقاء. هذا كمال الفرح. ثمّ صارت الدموع تندفق من هنا وهناك، تندفق من غير اتّفاق. هذا سؤال تستخرجه الدموع. وتلك مداخلة تختمها الدموع. وغدت القاعة كما لو أنّها بحر! هل نحن في قاعة فندق أو في بحر؟! لصافيتا بحرها. وانتقل البحر. يبدو أنّ البحر كان قد انتقل مع الذين انتقلوا إلى صافيتا؟ لقد قرأت، مرّاتٍ عديدةً، أنّ الربّ مشى على البحر. أمّا اليوم، فرأيته يمشي!

بعد الحديث، أخذني بعض إخوة على حدة. ولم تتركنا الدموع. أحدهم حرّك منّي قوله إنّه بات يأتي في الصلاة بأقلّ ما يكفي. استوضحته. حاول أن يبرّر حاله بسؤاله أين الربّ فيما نحن نتألّم، فيما نحن نُضطَهد، وفيما يبدو أنّه في جهة أخرى! "عجيب ما حلمنا به وما وصلنا إليه"، قال، أيضًا، فيما عيناه تكملان الغرق في مياههما. أخذت أخبره عمّا يؤهّله لأن يمسح دموعه، ويقوّي حاله. ورجوته أن يكون "فرحًا في الرجاء، صابرًا في الشدّة، مواظبًا على الصلاة". ولكنّي لم أخبره، علنًا، أنّ الربّ كان يمشي في بحر القاعة. اعتمرتني ثقة بأنّ الربّ نفسه سيمشي إليه، ويحمله إلى شاطئ أمانه.

كان الإخوة، في ذلك اليوم، على موعد مع دير السيّدة في قرية "بلمّانا". ودعوني إلى أن أرافقهم. استقلّتنا السيّارات التي كانوا قد ركنوها إلى جوانب الفندق. تركنا صافيتا، وتوجّهنا إلى الموعد. في الطريق، أخذ أحدهم، ينتمي أصلاً إلى هذا المدى، يعرّفني بالمناطق العديدة التي مررنا بها. معرفة الأرض ضرورة لزرع "الكلمة". وَقَبْلَ وصولنا إلى الدير، أكمل معرّفي حديثَهُ، باعتزاز، عمّا أحدثه وجود الدير من خيرٍ في القرى التي تجاوره. النور لا يحتجب. لم تكن زيارتي هذا الدير هي الأولى. فلقد توفّقت بزيارته منذ سنوات عدّة. وأُخذت بموقعه وبنائه. فدير "بلمّانا" حلّ محلّ جبل، غدا جبلاً لله. نادانا "الجبل" من بعيد. وما إن دخلناه، حتّى استقبلتنا إحدى الراهبات، وقادتنا إلى قاعة تقع في طبقة الدير العليا. فرادة الراهبات، في كنيستنا، أنّهنّ وجوه "متعلّقة بالسماء الثامنة". كان هناك، في قاعة الدير، سيّدة تنتظر (لقاء رئيسته، كما أظنّ). سلّمنا. ردّت على السلام بفتحها دفاتر الأيّام. "ألا تذكرني؟ لقد التقينا، منذ سنوات طويلة، في إحدى المؤتمرات التي تنظّمها الأمانة العامّة (في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة)". عجيب أمر هؤلاء الحركيّين! كلّهم ذاكرة حيّة. "هذا زوجي وابني (أشارت إلى الطفل الرضيع الذي كان يغفو قربها). أتينا إلى الدير للتبرّك". عجيب أمرهم فعلاً! من مثلهم يعرف أنّ شأن "المدينة" أن تبقى مشدودةً إلى هدوء "البرّيّة"؟ ثمّ دعتنا الراهبة التي استقبلتنا، وطلبت منّا أن نتبعها إلى قاعة الدير الكبرى. وهناك، اجتمعنا برئيسته. سلّمنا، وقعدنا إليها. كنت أعرف غيرتها على شبابنا النهضويّ. وكشفت قلبها في حديث ناريّ تخلّله اعتراف بدموع. دائمًا الدموع! وأوصتنا بالصلاة. هذا شأن مَنْ يشغلهنّ انتظار العريس. ثمّ ودّعنا الأخوات، وعدنا أدراجنا.

اجتمعنا من جديد، في الفندق، على الغداء في الساعة الرابعة بعد الظهر. كان عليَّ، بعده، أن أكلّم بعض الشباب الجامعيّين منهم. هنا، الوجوه تسطع بجمال اليوم والغد. درسنا، معًا، نصًّا إنجيليًّا. ليس أحلى من الكلمة دفعًا إلى التزام راضٍ. وأُعطينا أن نستقرّ في أنّ شأن المؤمن أن يفرح بالكلمة وَبِمَنْ يعتني بنقلها. فالكلمة عهد الله إلى كلّ إنسان، ليقرأها، وينشرها طائعًا، ويغبطه كلّ مَنْ ينشرها. لم يكن لهذه الطيور الواعدة من أسئلة كثيرة. كانت زقزقتها معظمها إصغاء. وكان لنا أن نحلم بيوم لا تقوى على طيوره طلقات الغدر.

خارج الشهباء، كان لنا لقاء حلبيّ كلّه سلام وفرح وزقزقة تنتظر أعجوبة احتضان.

 

مجلّة النّور، العدد الخامس، ٢٠١٠
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content