22نوفمبر

لا بدّ لليل أن ينجلي!

لم يفت الجماعات المسيحيّة، في غير زمان ومكان، أنّ الله هو الذي يعضدها في واقعها وما ترجوه في الحاضر وأبدًا. طبعًا، هذا لم يعنِ أنّ أعضاءها، في هذا الجيل أو ذاك، قد ارتقوا كلّهم إلى براعة الالتزام. فالجماعات، التي عمّرها الله بِمَنْ لم يبخلوا حتّى ببذل دمائهم كُرمى لمجده، لم تخلُ يومًا مِمَّنْ دخلوها عفوًا، أي مِمَّنْ عاشوا عمرهم يراوحون مكانهم، وآخرين لم يخلّفوا طفولةً ساذجة، ومرائين دثّروا خطاياهم بإصرارهم على برّ زائف، وذوي مصالح، وأعداء... وهؤلاء كلّهم لم ينجُ موقعٌ منهم!

هل أتطاول على الحقّ؟ لا، لعمري، بل أقرأ ما كُتب وما يُرى. والله شاهد عليَّ أنّني لا أدين.

لا أدين، إذًا. لكنّني أذكّر نفسي بأنّ إرثنا المبرور، ولا سيّما الذي نشأ في برّ المناسك، حكم أن ليس من سور، مهما علا، يحمي من الإغراء. الإنسان نفسه إمّا يحيا في الأرض فيما تحتضن قلبَهُ سماءُ الله، وإمّا يغرق كلّه في مستنقع من أوحال. فالجماعات المسيحيّة مجتمع بشريّ هداه الله خلاصه مجّانًا، ليثبت فيه.

إذًا، من دواعي الذِكرة أن نبقى نعرف، في غير حال، أنّ كلّ مَنِ انتسب إلى الكنيسة لا يكون شيئًا إن لم يعزّز ثقته بالله الذي خلّصنا مجّانًا. فالكنيسة هي الله ومحبّته، أوّلاً وأخيرًا. وهذا لا يمنعنا، واثقين، من أن نرى بصمات الله في الكون، في طهر إخوتنا وغير إخوتنا. أن نرى الخطايا، أن نصلب عيوننا عليها، يعني أن نخرج على الله، أو على وعينا أنّنا موجودون من أجل بثّ خيره في ربوعنا أوّلاً، وفي العالم دائمًا. ليس من التزام، في الجماعات المسيحيّة، صوريًّا، إن في الباطن أو في العلن. هذه عداوة وإن تجلببت ثوب بنوّة. الالتزام الحقّ هو أن تعي، في السرّ والعلن، أنّك ابن، وإن اختارت عائلتك أن تنتسب كلّها إلى أبيك لفظًا. أي هو أن يبقى لسان حالك: الله أبي، والناس إخوتي. وَمَنْ أصابته سهام العدوّ منهم، لا يبطل أنّه أخي.

هذا في الأساس. والأساس لا يغيّره مَنْ يكون المُصاب. كلّنا يمكننا أن نعلم بأنّ الناس، في غير جماعة، يريدون أولي الأمر فيها أن يكونوا قدوةً في كلّ خير. ولست بمترفّع على هذا الحقّ، الذي أرجو أن يسود حياتنا أبدًا، إن كرّرت أنّ دعوتنا أن نكون إلى المُصاب، أيًّا كان. وحاشا لي أن أتقصّد أن أهين أحدًا إن قلت إنّ الجماعات المؤمنة دخلتها، لغير سبب، عاداتٌ لا علاقة لها بإرثنا. ومن الدلالات على ذلك أنّ الكثيرين بيننا، اليوم، باتوا ينظرون إلى المسؤولين في الجماعات كما لو أنّهم فوقها. وهنا، يبدو لي أمران. أوّلهما أنّنا نكاد نفقد أنّنا كلّنا مسؤولون بعضنا عن بعض، أي أنّنا عائلة الله. نحن قوم عدنا، تقريبًا، ننتظر الكلمة الراضية أن تأتينا من أفواه عالية فحسب. والكلمة، التي الله الآب مصدرها، لا تحدّها وجهات. قد تأتي من علُ، وقد تأتي من تحت، وقد تأتي من غير وجهة. هي، الكلمة، تطلق ذاتها من أيّ وجهة أحبّت! وهذا يفرض علينا، لزامًا، إن حرّكت الكلمة أحدنا إلى قولها، أن يسعى إلى قولها. ويفرض، تاليًا، أن تُرتضى دائمًا. إن رأينا الخطأ، ولم نذكّر بالحقّ، نغدو مسؤولين عنه تمامًا كما لو أنّنا مرتكبوه.

أمّا الأمر الثاني الذي أرى التبصّر فيه مُلحًّا، فهو أنّ تراثنا منعنا من التشهير بأحد. معظمنا يمكننا أن نعرف أنّ التشهير، لا سيّما بالأكابر في الجماعات، يبدينا لا نعي، لا من قريب أو من بعيد، أنّنا عائلة الله الواحدة. وكلّ مَنْ يعنيه أن يشهّر بسواه ليس قليلاً أن يقال فيه إنّه صغير يطمح إلى أن يتصاعد على أظهر الكبار، وإن كان سقوط بعضهم مدوّيًا. الأمر الوحيد المسموح أن تلتزمه الجماعات المؤمنة، في أوان الخطأ الظاهر، أن ينادي كلّ أخ أخًا له، يراه قد أخطأ، إلى كلمة سواء. وإن لم يسمع منه، أن يأخذ معه أخًا أو اثنين. وإن لم يسمع، أن يخبر الكنيسة. هذا رسمه ربّنا في إنجيله المبارك (متّى 18: 15- 17). وإن ختم يسوع أنّه، إن أبى أن يصغي إلى الكنيسة، "فليكن عندك كالوثنيّ والعشّار"، فلا يمنعنا من أن نبقى نبيّن له الودّ كلّه، ونبذل من أجله كلّ "عتيق وجديد". هذا تراثنا الذي، إن بدلناه، نخرج عليه.

هل أبالغ في معاني الرحمة؟ لم يعطَ أيٌّ منّا أن يختلس موقع الله! ولم يسمح الله لأحد بأن يترك بابًا، يفيد صالح الإخوة، من دون أن يطرقه. ويمكن أيّ قارئ، يتابع هذه السطور، أن يلاحظ أنّها لا تستبعد أن يرحم مَنْ يدفع سواه إلى ارتكاب خطيئة التشهير به، أن يرحم إخوته إن بإصغائه التائب إلى ما يعرف أنّه يتجاوزه، ولا سيّما إن أتاه منهم، أو بإقصائه ذاته! كلّ القوانين الكنسيّة، التي تدين الخطيئة التي نرتكبها عن وعي أو غير وعي، لا تمنعنا، عارفين، من أن نحاكم أنفسنا بها. هذه الكنيسة الرائعة، كلّنا معنيّون بأن نحافظ على كرامتها وحسن شهادتها في الأرض. لا يليق بنا، أي بأيٍّ منّا أن يتعاطى هذه الدنيا كما لو أنّها أبديّة، أو أنّه سيحيا فيها أبدًا. هذا منبت غير خطيئة. ويبقى ملزمًا أنّ كلّ مَنْ يعنيه رضى الله عنه، ويرجو أن يكون له نصيب في المجد، مدعوّ إلى أن يسعى إلى جعل كلّ لحظة من حياته فرصةً، ليتمجّد الله بها، إن بالتوبة إلى جماعة الإخوة، أو بالعمل على أن يسود حكم الله في الأرض.

ن بقينا نعي أنّ الله يحتضننا في واقعنا، فشأننا أن نعزّز الرجاء به. الخطايا، التي تضربنا من غير جانب، إن اعتبرنا إصلاحها لا يعنينا، أو تعاطيناها بربرة، فلن يرضى الله عنّا. إن لم نعلم بأنّنا نحيا في عالم خدّاع، فهذه دلالة على أنّنا ما زلنا "أطفالاً في الالتزام". كلّنا مسؤول عن أن يرفع نفسه إلى الحقّ، ويسعى إلى أن يرفع سواه. ودائمًا، يجب أن نبيّن إيمانًا وطيدًا بأنّ الله قادر، الآن وهنا، على أن يجلو عنّا كلّ ليل!

- مجلّة النّور، العدد السابع، ٢٠١١
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content