23فبراير

كوستي بندلي

كنّا، في "مجلّة النور"، قد أفردنا عددًا خاصًّا كَتَبَ فيه عن كوستي بندلي وفكره بعضُ إخوته ومحبّيه الكثيرين. لم نقصد، في ذلك العدد، مدح لحم ودم، بل اعترافًا بودّ اعتدنا أن نؤجّل البوح به علنًا إلى حين، إلى حين يواري أحبّاءَنا التراب! أفهم الحكمة من هذا التأجيل. أفهمها، وتقنعني. لكنّني، على فهمي إيّاها واقتناعي بها، أراني، أحيانًا، أؤيّد التفلّت منها! أراني، أحيانًا، أوافق الذين يجذبهم خيار البوح.

هل الاعتراف بالودّ يفترض انتظار الموت (موتهم) دائمًا؟
مَن يضمن أنّه سيحيا إلى يوم غد؟
ألا يحقّ لنا أن نستبق الموت، أحيانًا؟
أليس شأننا أن نمجّد الله على خيره، في غير حال؟
ألم يكن الأخ كوستي يحبّنا دائمًا؟
هل ثمّة أعلى تعبيرًا صريحًا من المحبّة؟
هل ثمّة أعلى امّحاءً من المحبّة الظاهرة؟
محبّتهم التي تأتينا مجّانًا، أي دائمًا من دون أن نستحقّها؟

ثمّ التقيت به ثالثةً (أنظر: مجلّة النور، 4/ 2007). كان نازلاً في أحد المستشفيات في بيروت. عرفت أنّه فيها من أخٍ، يخصّه ويخصّنا، اتّصل بي يطلب إن كان من الممكن أن يُحمل إليه جسد الربّ ودمه، يوم الأحد. هذه الزيارة أتت بعد لقائي به ثانيةً بسنين يصعب عليَّ عدّها. لكن، بين اللقاءين دخلتني عادة أن أتّصل به مباركًا له في ذكرى عيد شفيعه، بانتظام دائم. وأخذ هو يتّصل بي في ذكرى عيد شفيعي، بانتظام دائم. لمّا دخلت الغرفة التي كان يستشفي فيها، ذكرت اسمي توًّا. بدا أنّ أحدنا يعرف الآخر، جيّدًا! صلّينا من أجل شفائه. وعلى إيقاعِ كلماتٍ يحفظها عن ظهر قلب، تقلّص وجهه، وغار في صدره. ثمّ انتفضت عيناه، واخرجت بعض حبيبات ماء. كنت قد أُخبرت عن هذه المياه أنّها تتلألأ، من مكانها عينه، في كلّ وقفة تستدرّ "الرحمة الغنيّة العظمى". كانت زوجته حاضرةً تشبه تلك التي قال عنها كاتب المزمور، حاضرةً في خدمته وعائديه. فشكرا لي أنّ أحد الإخوة الشمامسة، الذي يشارك في خدمة رعيّتنا، قد أتاه بـ"دواء الخلود". لم يسمح لي بأن أتباهى بقولي له إنّني نلت شُكْرَيْن، شكرَهْ وشكرَ الشمّاس عينه، الذي حمل إليه القرابين. سبقني بأن أشار عليَّ أن أختار كرسيًّا يجاوره. أطعته. كان صوته ضعيفًا.

"هل يزعجك أن نتكالم؟".
هزّ رأسه نفيًا، ثمّ تكلّم قال: "لا، إطلاقًا"!
لم أكن بمحتاج إلى تشجيع. سمعته يقرّ بأنّه قادر على الكلام. فسألته عن أمر كنسيّ يقلقني.
كانت غيرته على الحقّ تشبه أسلوبه في الكتابة، قويّةً وواثقة.
كيف تخرج القوّة من شيخ ممدّد على سرير لا يقوى على الحراك؟
سؤال لم يخرج من فمي. وكان جوابي لنفسي أنّ الربّ يؤتي أحبّاءه القوّة.

أجل، كان قويًّا.
لا أتكلّم على القوّة التي يبديها هذا الاتّكال الجميل على الله، لا سيّما في أوان المرض. هذا لا بدّ من أنّ الكثيرين رأوه على وجوه لم تمنعها الشدائد من أن ترى الله (الذي كان حاضرًا في الزيارة). لكنّني أتكلّم على أمر آخر، أمر نادر، أمر لا يقلّ جمالاً عن هذا الاتّكال. أتكلّم على الحضور الذهنيّ الكبير في إشعاعاته وتوثّباته فيما الجسد يكاد يكون ملغى، كلّيًّا! أتكلّم على القدرة على الكلام في أمور يتعاطاها معظمنا تمتمةً أو إهمالاً أو تشويهًا. أتكلّم على الجبابرة الذين لا ينامون. الذين، إن ناموا، يبقون قادرين على بثّ اليقظة في غير جهة. وتكلّم. تكلّم بيده وبعينيه وبفمه. كان صوته، متهدّجًا، ينطق الحقّ في غيرة بليغة.
محبّة الكلمة والقرابين.

لو كنت رسّامًا أزمع أن أرسم لوحةً له، لما مددت يدي على غير هذين اللونين.
هل أغمض عن ألوان أخرى؟
مثلاً، هل أغمض عن ذكر المحبّة الأخويّة التي لا تكتمل جِدّة من دونها؟
لا، فهذه لا تختلف عن هذين اللونين اللذين ذكرتهما.
قليلون يعلمون أنّ أمر الكلمة الأعلى أن نحبّ الإنسان كما لو أنّه قربان!
كان كوستي يعلم.
يعلم، ويعلِّم.
ألم يعلن، في مناسبات عدّة، أنّ أحد مصادر علمه بعضُ شبابٍ كانوا عشراءه في الفيحاء؟
الكلمة مصدر. القرابين مصدر. والإخوة مصدر.
هذه كان كوستي يعلم أنّها مصدر واحد.
يعلم، ويعلِّم.
ثمّ ودّعتهما، وخرجت.

تبعتني كلمات الشكر إلى الباب، بل إلى أبعد من ذاك الباب الخشبيّ في أوّل الغرفة، تبعتني إلى الذي قال: "أنا الباب" (يوحنّا 10: 9). "هذا أجر ثمين لقاء عمل هيّن"، قلت في نفسي! لا أعتقد أنّ أخانا كوستي فكّر في أنّ الذين يزورونه إنّما طمعًا يفعلون! تواضعه العجيب يمنعه من أن يعطي نفسه أيّ أهمّيّة.

منذ التزامي الحياة الكنسيّة، حفظت أن أضع، قرب سريري، كتابًا أقرأه. ليلة الأربعاء في الـ11 من شهر كانون الأوّل المنصرم، ذهبت إلى مكتبتي أعيد الكتاب الذي كان ينام قربي. كنت قد ختمته. مددت يدي إلى مكان الكتب الجديدة. كانت ثمّة كتب عدّة تنتظر. أخذت واحدًا. نظرت إليه، ثمّ أعدته إلى مكانه. لِمَ فعلت هذا؟ لا أعلم. أخرجت كتابًا ثانيًا، وأخذته معي. كان كتابًا جديدًا لكوستي. قرأت فيه بعض صفحات. وتركته قربي ينام قبلي. استيقظت في الصباح. كان كوستي قد رحل. وترك لنا كلماته قربانًا.

- مجلّة النّور، العدد الأوّل ٢٠١٤
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content