من نوافل القول أن ليست حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة جماعة تضاف إلى الكيان الكنسيّ. فأعضاؤها، معمّدين، هم إخوتنا وأولادنا، وتسمح لنا أمور كثيرة بأن ندعو بعضهم آباءنا أيضًا.
لماذا هذا الكلام اليوم؟
أحبّ أن أذكر، بدافعِ رغبةٍ في التوبة، أنّني قد قرأت الأدب الحركيّ منذ ظهوره إلى اليوم. وعرفت، من غير طريق، ما يمثّله هذا التيّار النهضويّ من أهمّيّة كبرى لخير الكنيسة كلّها ونموّها وازدهارها، وتاليًا ما يعترضه من مشاكل عميقة ما زالت آثار بعضها إلى اليوم. وبصدقٍ، أقول إنّ أكثر ما صدمني هو العداء المجحف الذي واجهه، ويواجهه، أعضاء الحركة هنا وهناك. وتسأل: لِمَ؟ لِمَ يصيب إخوة لنا ما يصيبهم؟ ويرميك سؤالك في مرارة متعبة. وإن عرفت جوابًا، تحاول أن تخفيه في جوفك. تحاول أن تكذّب نفسك. فأنت لا تريد أن تعتقد أنّ ثمّة من يستقبحون أن يُحبّ الله في أزمنة الناس!
هل سيبقى "أعداء الإنسان أهل بيته"؟ يقول بعضٌ: والآتي أعظم! ومعنى قولهم أنّ ثمّة إخوة كبارًا، لهم الفضل في نشوء هذا التيّار الفريد، سيخفيهم التراب يومًا. ومتى سافروا، فسيتبعهم ما خلّفوه. كلّنا يعلم أنّ الكنيسة لا تخلو من أشخاص ينتظرون موت سواهم، ويبنون مواقفهم وطموحاتهم على هذا الانتظار. للأسف، فإنّ بعضًا يتوهّمون بأنّهم سيبقون إلى ما لا نهاية. يهملون أنّهم نشأوا بفضل تربية هذا التيّار الحيّ (فيه أو بفضل إشعاعه)، وتغرقهم أوهام مريضة. لا أريد، بما أقوله، أن أوحي بأنّ بقاء الحركة يضمنه بشر، أيًّا كانوا. فمن أسّسوها هم أوّل من علّموا أنّها من عمل الروح القدس. ونحن صدّقنا، وخبرنا، وآمنّا بأنّ ما يعمله الروح لا يمكن أن يموت. إنّني أعرف، كما غيري، أنّ ثمّة من قال قديمًا: "الحركة وجدت، لتزول". ونسمع بعضًا يردّد هذا القول، اليوم، في غير سياقه. وعلى اعترافي بأنّ هذا القول أذهلني يوم قرأته كثيرًا، يغضبني أنّ بعضنا يردّدونه فيما يسلخون عنه الطهر الذي جاء به. لست بقائل إنّ غضبي سببه اعتقادي أنّ أحدًا باقٍ في هذه الأرض. لا، لن يبقى أحد. فما يغضبني أن تخالف المعاني التي تحملها أقوال إخوة لهم فضل كبير على قلوبنا جميعًا. فمن قال هذا القول أوّلاً، كان حلمه أن يلهب روح الله أعضاء الكنيسة طرًّا. ليس من إنسان منطقيّ يتمنّى أن تزول حركة الروح، ولا سيّما إن اختبر، هو شخصيًّا، عملها. هذا ليس تحزّبًا. هذا تفسير رؤية لا تحتمل، عندي، تفسيرًا آخر.
أمّا أن يقصد بعضٌ أنّ الحركة عاد لا لزوم لها اليوم لكون زمان ظهورها اختلف عن زماننا، فهذا، لعمري، تشويه يحدّ سبب ظهور الحركة بمعالجة أسباب خاطئة كانت سائدة قديمًا. لا، ليس هذا سبب ظهور الحركة. فما أراده الله، في أزمنة الفوضى، أن نذكر جميعنا أنّ الكنيسة، في جوهرها، هي جماعة مواهبيّة. هذا هو السبب الحقيقيّ الذي لا يجوز أن يُعمى عنه. ولا تستطيع كنيسة، أمس واليوم وإلى الأبد، أن تقوم على سوى مواهب الروح. وإن كان المقصود بزماننا أنّه بات عندنا قيادة سليمة اليوم مثلاً، فلا يتغيّر جوهر الكنيسة التي لا يمكن أن تقوم على بعض. إذ ليست الكنيسة عضوًا واحدًا، أيًّا يكن هذا العضو. هذا لا يعني أنّنا نزدري بمكانة قادة الكنيسة. حاشا! فالكنيسة، التي يجب أن يقودها قادة يسوقهم روح الله، هي كنيسة الروح الذي أعطى كلّ عضو من أعضائها أن يساهم في خدمتها ونموّها وانتشارها.
لستُ بمتكلّم انفعاليًّا. وحسبي أنّ من يسلكون بموجب هذا الإيمان الحرّ يعرفون، تمامًا، أنّه حقّ. معظمنا يعلم أن ليس في الكنيسة، ولا سيّما في صفوف مسؤوليها، من يغفل عن ضرورة مواهب الروح. ولكنّ معظمنا يعلم، أيضًا، أنّ ثمّة من يتجاوز ما يعرفه. طبعًا، هذا يطرح سؤالاً وجيهًا، لا نذكره بدافع التشكيك بل إخلاصًا للحقّ، وهو: لِمَ؟ لِمَ يتجاوز بعض العارفين ما يعرفونه؟ ولهذا السؤال أجوبة عدّة. وكلّ جواب منها يحرّكه أنّنا بشر نادرًا ما ندرك أنّنا هباء تذروه الريح عن وجه الأرض. كلّ جواب يذكّرنا بأنّنا، ترابًا، يأكلنا وهمٌ يقنعنا بأنّ الكنيسة هي التي تحتاج إلينا، ولسنا نحن من نحتاج إليها. بلى، الكنيسة تحتاج إلينا، ولكن إن وعينا حقّ مواهبها، وزدنا من رفع الشكر الذي يعلّمنا، وحده، أنّ المجد لله فحسب.
لقد أنشأ روح الله حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، لنذكر أنّ مواهب الروح هي التي تقيم الكنيسة، وتحييها. ولا يليق بأحد أن يرمي، خارج قلبه، خبرة غيره، ويبدأ من نفسه. ليس في الكنيسة "قياس للنفس بالنفس". فهذه خبرةٌ اللهُ كشفها منذ أن ارتضى أن يُرى في وجه ابنه الوحيد. "نحن جسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا". هذه هي الرؤية التي مسحت الحركة عنها غبار التاريخ. وستبقى هذه الرؤية حياة كنيسة دورُ أعضائها جميعًا أن يتشدّدوا بعضهم ببعض. لا ينفع كنيسة الله، لا اليوم ولا غدًا، سوى أن نعتقد بأنّ الله أوجدنا معًا، لنحيا في شركة كنيسة واحدة لا يقدر أحد فيها على أن يقول لأحد: "لا حاجة بي إليك". هذا ليس كلامًا يسمح لنا بأن نقبله، أو نرفضه. هذا كلام الله الذي شاءت عزّته أن يُسمعنا كلامه، لنطيعه في كلّ ما نقوله ونعمله.
كيف ترى أنّ أعضاء الحركة إخوة وأبناء وبعضهم آباء، وتريدهم هكذا؟ هذا أمر يليق بنا أن نعتبر اليوم، ما دام لنا يوم، أنّ الله أوجد عيوننا، لنراه، ونهتدي بهديه في حياة كنيسة ليس مثلها شيء.