"لكنّي لا أبالي بحياتي ولا أرى لها قيمةً عندي. فحسبي أن أتمّ شوطي، وأتمّ الخدمة التي تلقّيتها من الربّ يسوع، أي أن أشهد لبشارة نعمة الله" (أعمال الرسل 20: 24).
هذه قطفة من خطاب ألقاه بولس فيما كان يودّع شيوخ الكنيسة في أفسس (20: 18- 35). ونعرف من قراءته أنّه، فيما ذكر فيه بعض أمور تتعلّق بعمله التبشيريّ، حثّ سامعيه على الاهتمام برعيّة المسيح وبذلهم أنفسهم في سبيل كلّ عضو فيها. الآية، التي اخترناها، تختصر هذين الهدفين.
لا يعوزنا أيّ جهد، لندرك أنّ بولس، بما قاله، يشعر بأنّ ثمّة خطرًا يحدق به. فما نقلناه هنا، هيّأ له بقوله: إنّه "اليوم ماض إلى أورشليم أسير الروح، ولا أدري ماذا سيحدث لي فيها. على أنّ الروح القدس يؤكّد لي في كلّ مدينة أنّ السلاسل والشدائد تنتظرني" (22 و23). لِمَ بولس في خطر؟ هذا جوابه واحد: لأنّ "جميع الذين يريدون أن يحيوا حياة التقوى في المسيح يسوع يُضطهَدون" (2تيموثاوس 3: 12). هناك عداء قائم إلى الأبد ما بين حقّ الله والعالم. فالعالم يكره الحقّ، واستطرادًا كلّ مَنْ يختاره حياةً له. ولكنّ المدهش، في قول الرسول، اعترافه بأنّه لا يبالي بحياته، ولا يرى لها قيمةً عنده! وهذا يستدعي سؤالاً آخر: من أين يستمدّ رجل، له موعد مع موت محتّم، هذه القوّة؟ أيضًا، هذا جوابه واحد: "فإنّنا نحن الأحياء نسلّم في كلّ حين إلى الموت من أجل يسوع، لتظهر في أجسادنا الفانية حياة يسوع أيضًا" (2كورنثوس 4: 11)، أي يستمدّها من إيمانه بأنّ المسيح قام، وأقامه معه. قوّته أنّ الموت عاد وراء. أمّا الحياة، ففيه وأمامه "كلّ حين". هل أراد أنّ هذا العالم لا يقدر على حياته الحقيقيّة؟ هذا هو امتداد الوعي الفصحيّ.
إذًا، قال: ليس الخطر بشيء. وليس السجن والموت. فكلّ شيء، عنده، أن يتمّ شوطه. إنّه يصوّر حياته كما لو أنّه في سباق. ثمّة خدمة تلقّاها من الربّ، وهذه يسابق الكون، ليتمّها. نحن نعرف أنّ الإنسان، عادةً، يحيا تحت ضغط ما يلقاه في حياته (مرض، حزن، خطر...). فكيف لرجل، مزمع أن يموت، لا يرى سوى ضغط البشارة ضغطًا؟ هذا سؤال سبقه جوابه. واستكمالاً لجوابه، قال مفسّرًا: "أي أن أشهد لبشارة نعمة الله". لم يقل: لبشارة الله (على أنّه لو فعل، لَكان قوله تامًّا)، بل لبشارة نعمة الله. وبهذا، كشف أمرين. أوّلهما أنّ ما كلّفه الله أن يتمّه يعي أنّه قد أُنعم عليه به (مجّانًا من دون أيّ استحقاق منه). وثانيهما أنّه "لم يقبل نعمة الله باطلاً" (2كورنثوس 6: 1)، بل استفاد منها، وثمّرها بجهد يوميّ. هل ذكرُهُ "نعمة الله" يتضمّن أمرًا آخر ينتظره. فرادة العبارة أنّه تلفّظها في سياق ما ينتظره من اضطهاد وأسر فموت. ماذا ينتظر بعدُ؟ أن يُنعم الله عليه بـ"إكليل البرّ" (2تيموثاوس 4: 7). هذا ليس اختلاسًا لموقع الله لم يسقط بولس فيه مرّةً (1كورنثوس 4: 4)، بل رجاء إنسان لم يعش حياته، بل لحظةً من حياته، لهوًا فارغًا. يذكر النعمة التي خدمها في حياته تعبًا موصولاً في الليل والنهار، ويرجوها نصيبًا أبديًّا!
أين هم مَنْ يخاطبهم في كلام يبدو يتعلّق بحياة قائله ومصيره وحده؟ ماذا أراد أن يقول لهم؟
أراد أن يقول: "إذا اضطهدوني، فسيضطهدونكم أيضًا" (يوحنّا 15: 20). المسيحيّة، التي يكرز بها، قيمتها أنّها لا تتضمّن تفاؤلاتٍ وهميّة. هذا لا يعني أنّها مذهب مأساويّ، بل واقعيّ. لقد قدّم نفسه مثالاً، ليحثّهم، هم أيضًا، على أن يكملوا شوطهم، أي أن يحيوا في سباق إتمام نقل الشهادة "لبشارة نعمة الله". هذا العالم، يقول لهم، لا تنتظروا أن يفرح بكم يومًا. ليس من "صلة بين البرّ والإثم" و"اتّحاد بين الظلمة والنور" و"ائتلاف بين المسيح وبليعار (الشيطان في الأدب اليهوديّ)" (2كورنثوس 6: 14). وأنتم شأنكم أن تثبوا من كلّ فخّ، يضغط على خناقكم، بأن يبقى وعيكم كاملاً ألاّ تروا لحياتكم قيمة! حياتكم، حياتكم الحقيقيّة، أن يكون الله حياتكم، لترموه على كلّ بقع الموت. ليس، إن تخاذلتم وخفتم، للعالم من حياة. وليس لكم أيضًا. شأنكم أن تبقوا في سباق. أن تبقوا على يقين أنّ ما أنتم عليه نعمة. لا تقولوا، في أنفسكم، ما هو ضمان تعبنا. هذه لغة موظّفين لهم شروطهم، ليعملوا! وأنتم رفعكم الله، لتعملوا معه. أجركم نلتموه سابقًا. أجركم نعمته. وكفى بنعمته أجرًا، لتحيوا عمركم كلّه تعبًا لا يلين.
ثمّ: كلّكم تلقّيتم الخدمة من الربّ يسوع. هذا يعني أنّه يعرف أنّكم قادرون على إتمامها. والله لا يكذب. إيّاكم أن تظهروه بما لا يمكن أن يكون عليه. حسبُكم أنّه اختاركم، لتستحقّوا اختياره بجهدكم. ابذلوا أنفسكم. موتوا عن الإخوة، ليحيوا، وتحيوا أبدًا. لا يقل أحدٌ منكم، مرّةً، هذه حياتي التي أريد أن أحياها كما يحلو لي. هذا كلامٌ غبيّ. والبشارة تمجّ الأغبياء. على كلّ منكم أن يرى قيمة حياته في ما يريده مَنْ وهبه إيّاها. لا تنسوا، لحظةً، أنّ الله اكتسبكم بدمه. فاستحقّوه. استحقّوه بعمل الخير أبدًا. لا تقصّروا في إبلاغ الإخوة (والناس جميعًا) تدبير الله كلّه. تنبّهوا لأنفسكم ولهم. فهؤلاء رعيّة المسيح. انصحوهم جميعهم بكلامكم ودموعكم. انصحوا كلّ واحد منهم. لا تشتهوا شيئًا من أيٍّ كان. اشتهوا أن يقبلكم ربّكم في ربوع ملكوته الأخير الذي لا يدخله سوى الذين عاشوا حياتهم عدوًا إليه!
هل قصد الرسول أشخاصًا آخرين أيضًا؟ أي: هل يمكننا أن نرى أنفسنا، نحن أيضًا، في كلماته؟
هذا سباق لم يستثنِ الله منه أحدًا. يبقى أن نقرّر نحن إن كان هذا السباق يخصّنا أيضًا!
(نشر المقال في نشرة "رعيّتي" التي تصدرها مطرانيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) )