الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

قواعد الخطبة الكنسيّة في عظات بطرس الرسول - العظة الثانية

            تكلّمنا، آنفًا، على بعض قواعد الخطبة الكنسيّة في عظة بطرس الأولى. هنا، سنحاول أن نبيّن قواعدَ جديدةً للخطبة انطلاقًا من عظته الثانية (أعمال الرسل 3: 11- 26).

            قَبْلَ الشروع في تحديد قصدنا المبيّن، يمكن أن يلاحظ القارئ أنّ لكلّ عظة من عظات بطرس المسجّلة في كتاب أعمال الرسل ظرفًا يستدعيها. فلقد رأينا أنّ الرسول ألقى عظته الأولى بعد حدث العنصرة مباشرة. وأمّا هذه العظة الثانية، فقد ألقاها بعد أن شفى، باسم الربّ يسوع، "رجلاً كسيحًا من بطن أمّه، كان يحمله بعض الناس، ويضعونه، كلّ يوم، على باب الهيكل المعروف بالباب الحسن، ليطلب الصدقة من الذين يدخلون الهيكل" (أعمال 3: 1- 10). فبعد حدث الشفاء توًّا، أسرع الشعب كلّه إلى بطرس (ويوحنّا الذي كان معه منذ البدء) نحو الرواق المعروف برواق سليمان. هذا هو ظرف العظة. أمّا القواعد، التي سنختصرها بثلاث أيضًا، فهي:

            1- أوّل ما يثيرنا، في هذه الخطبة، أنّ الناس، الذين خاطبهم الرسول، شعروا بأنّ ما جرى يعنيهم. أثارهم ما جرى، فتبعوا الرسول. خاطبهم ما جرى، ففعلوا. وهذا، في الواقع، أمر لا مثيل لأهمّيّته في سياق تتميم الخطبة الكنسيّة. من حيث إنّ دور الواعظ الأعلى أن يخاطب المؤمنين على أساس كلمات، أو أحداث، يجب أن يبيّن أنّها تخصّهم هم. قد يعتبر بعضُنا أنّ هذا الأمر بديهيّ جدًّا. وهو هكذا فعلاً. ولكنّ الواقع يُظهر أنّ كثيرين، ممّن يصغون إلى التعاليم الإنجيليّة، يتلقّفونها على أساس أنّها تمّت مع سواهم. هكذا تعوّد الكثيرون، مثلاً، أن يصغوا إلى مَثَلِ الفرّيسيّ والعشّار ومَثَلِ الابن الشاطر وشفاء المخلّع والسامريّة والأعمى وغيرها، من دون أن يحسبوا أنّ هذه الشخصيّات، في اللقاء الكنسيّ، تغدو مَن يسمعون عنها أيضًا. العظة الصحيحة من قواعدها أن تنبّهنا إلى أنّ ما يبني عليه الواعظ كلامه، وليس كلامه فحسب، إنّما يخصّنا نحن أيضًا.

            2- الأمر الثاني أنّ هذه الخطبة كلّها جواب عن سؤالين يتعلّقان بشفاء المخلّع. يقول الرسول: "يا بني إسرائيل، لماذا تتعجّبون من ذلك؟ ولماذا تحدّقون إلينا، كأنّنا بذات قوّتنا أو تقوانا جعلناه يمشي؟" (12). طبعًا، يمكننا أن نلاحظ أنّ كاتب الأعمال مهّد لطرح هذين السؤالين، بقوله: "فأخذهم العجب والدهش كلّ مأخذ ممّا جرى له" (10). لكنّ كلام بطرس يجعلنا نعتقد أنّ شأن الواعظ أن يساعد سامعه على أن يطرح على نفسه الأسئلة التي تجول في خاطره، ليجيبه عنها. فطرح الأسئلة، التي تعني المؤمنين، فنّ من فنون الوعظ الكنسيّ. ومَن امتهن الخطاب في أيٍّ من مجالات العمل الذي يستدعيه، يعرف أنّ من خصائص السؤال أنّه يدلّ على شخصيّة سائله. بطرس، في إجابته، كان يردّ على أشخاص محدّدين. لا يعني شيئًا أن نطرح أسئلةً لا تعني مَن نخاطبهم. وهذا، من حيث هو قاعدة، أمر آخر لا يمكن أن يتمّ من دون قربى تجمع بين الواعظ والمؤمنين.

            3- الأمر الثالث أنّ الرسول، في جوابه، يشعرنا بأنّ ما يقوله لا ينتهي عند ما يقوله. بلى، لقد قدّم جوابًا كاملاً عن السؤالين المذكورين. ولكنّه جواب يفترض أن يتحوّل السامع من شخصٍ متلقٍّ إلى شخص باحث، من شخص يصغي إلى شخص له علاقة شخصيّة بكلمة الله، أي قارئ دائم لها. إلامَ نستند في هذا القول؟ إذا قرأنا العظة، في موقعها، ندرك أنّ الرسول يبدأ جوابه بتذكير الشعب بخطاياهم. يكلّمهم على مسؤوليّتهم عن إنكارهم يسوع القدّوس البارّ وقتلهم سيّد الحياة، وعن عمل الله الذي أقامه من بين الأموات. ثمّ يشهد أنّ فضل الإيمان باسم الربّ يسوع هو "شدّد هذا الرجل الذي تنظرون إليه وتعرفونه"، ووهبه "كمال الصحّة بمرأًى منكم جميعًا" (13- 16). وهذا، استطرادًا، يعلّمنا أنّ الكلام على القيامة يجب ألاّ نحصره في إطار الشهادة لما جرى في فجر اليوم الثالث فحسب، بل أن نراها في فعلها المستمرّ أيضًا. وذلك لكون القيامة تخصّنا نحن أيضًا. أي لكون الربّ يريدنا أن نعرف، دائمًا، أنّ قيامته ليست حدثًا من ماضٍ مفصول عنّا. فنحن ربّما نحسب أنّ المسيح قام قديمًا وكفى. ويريدنا الرسول، في ما قاله هنا، أن نزيد على إيماننا ما هو منه، أي أنّ المسيح، بقيامته، أقامنا أيضًا معه، وما زال يقيمنا. ثمّ نلاحظ أنّ الرسول ينتقل إلى ما جاء في كتب الأنبياء من أنّ مسيح الله "سوف يتألّم". ويدعو سامعيه، الذين كان قد وصفهم بأنّهم عملوا ما عملوا بجهالة، إلى أن "يتوبوا ويرجعوا"، "لكي تمحى خطاياهم، وتأتيهم من عند الربّ أيّام الفرج" (17- 20). وبعد أن يسترجع ذكر الأنبياء الأطهار جميعًا وما قاله الله على لسان موسى، يحثّهم من جديد على التوبة، بقوله: "من أجلكم أوّلاً أقام الله عبده (يسوع، كما يصفه أشعيا النبيّ) وأرسله ليبارككم، فيتوب كلّ منكم عن سيّئاته" (21- 26). هذا الانتقال يؤكّد ما عرفناه قَبْلاً، وهو أنّ شفاء المخلّع أتمّه الربّ نفسه. ولكنّ الرسول، هنا، يذكّر بالحدث في سياق استرجاعه الكتب القديمة التي تكلّمت على يسوع الذي تمّم تدبير أبيه. فالكلام الكثيف المستقى من الكتب، وإن تَكَهَّنا أنّ سامعيه يعرفونه، يؤكّد أنّ ما ينتظره الرسول أن يعتادوا قراءة الكتب على قاعدة هذا الإتمام. فإن كان ما جرى قد أتمّه يسوع، وإن كانت الكتب أنبأت عنه، فهذا وذاك سببان يحثّاننا على أن نبحث عن الربّ في كُتُبِهِ. وطريقة البحث الجديدة، التي يثبّتها الرسول، لا يمكن أن تتمّ من دون توبة حقيقيّة. بكلام آخر، إنّ شأن الواعظ، فيما يحثّ المؤمنين على التوبة، أن يعرف أنّ هدفَ الوعظِ الأخيرَ لا ينحصر بالكلمات التي يقولها توضيحًا لنصٍّ محدّد مثلاً، بل أن يلتزم المؤمنون قراءة الكلمة، التي تثبّت قلوبهم، دائمًا وفي كلّ حين.

            هذه قواعد جديدة تحكم صحّة الخطاب الكنسيّ.

شارك!
Exit mobile version