مِنَ الظلم الحارق أنّ بعضًا قد أخذوا يستخفّون بشباب "النهضة" الذين معظمهم يفنون أنفسهم، في خدمة الله وشعبه، في مدانا الأنطاكيّ. وهذا الاستخفاف يصل إليك من غير وجهة. وجهة بعض مَنْ لم يعرفوا تيّارنا النهضويّ عن قرب. ووجهة بعض مَنْ يعتقدون أنّهم عرفوه زمانًا يكفي. ووجهة بعض مَنْ يمشون، من دون أيّ تمييز، في ركاب مَنْ يأخذه أن يَستخِفّ بِمَنْ لا يُستخَفّ به. وإن كان استخفاف مَنْ يعتقدون أنّهم عارفون فيه جورٌ لا يفوقه جور، يبقى كلّ استخفاف إجحاف بحقّ الله وكنيسته.
اعتبارات عديدة تمنعنا من أن نضع المستخفّين في خانة واحدة. ولكنّنا سنتجاوز الموانع، ونفعل هنا. الاستخفاف، واحدًا، يلحّ علينا بأن نفعل. ويلحّ علينا ما يمكن أن تكون دوافعه. يلحّ جوّ مريض، يبدو أنّه أخذ يتسلّل إلى غير موقع. جوّ تؤكّده تلك الأنا المنتفخة التي ترفض أن ترى إلى سوى ذاتها. فما يحزن كثيرًا، في زماننا، أنّ الكثيرين عادوا لا يعترفون بغيرهم، أو، بكلام أوضح، بحقّ الكنيسة المواهبيّة. وإن بنوا عدم اعترافهم على خطايا، هم خمّنوها أو تثبّتوا منها، تراهم مصلوبين على ما تفترضه أناهم. يستسهل المنتفخون أن يسنّوا، كالسيف، ألسنتهم، ويسدّدوا السهام ومُرَّ الكلام، ليرموا البريء خِفيةً، يرمونه بغتةً، ولا يخافون (قابل مع: المزمور الـ63). وهذا، الذي يبكي السماء ويغضبها في آن، مرارته تفوق غزارة المطر في أوان المطر. وهل يتأثّر منتفخ بأنّه يمرّر غيره؟
سنترك المرارة، ونكمل.
ما من شكّ في أنّك لا تقدر على أن ترى، في أيِّ موقفِ مستخفٍّ، أيَّ نيّة لفعل الخير. بتاتًا، لا يمكنك أن ترى. فالمستخفّ، أيًّا يكن، قريبًا أو بعيدًا، فتًى أو كهلاً أو شيخًا، إنّما شخص قرّر أن يضعك بعيدًا من مرمى عينيه. وَمَنْ لا يَرَكَ، أو لا يقبل أن يراك، لا يمكنك أن تنتظر منه أيّ التفاتة تنفعك، وتجدّدك. يبربر فحسب. يبربر دائمًا. تصل إليه أمور عنك، صحيحةً أو خاطئةً، ويضحك، في سرّه أو علنًا، ويتبسّط في كلامه على غير احتشام. فَمَنْ تكون أنت، ليحتشم؟! برأيه، "أنت دودة، لا إنسان / عار عند البشر ورذالة في الشعب". ففي سياق الاستخفاف، موقفًا مَرَضِيًّا، تتحوّل "أنا دودة" (المزمور الـ22) إلى "أنت دودة". في سياق "الاستهزاء وفغر الشفاه وهزّ الرؤوس"، تتحوّل. لا يعرف المستخفّ، أو لا يريد أن يعرف، أنّ مَنْ تقع عليه مساوئ استخفافه به إنّما له إله قادر على أن "ينجّيه، لأنّه يحبّه". إله "من البطن أخرجه / وعلى ثديي أمّه طمأنه". أي لا يعرف أنّه يَستخِفّ بِمَنْ لا يُستخَفّ به. ففي النهاية، كلّ إنسان، ولا سيّما إن كان مظلومًا، محضون ربّه. مَنْ لا تَرَهُ أنت، تدفعه إلى أن يمتّن قعوده في حضن مَنْ يرى الكلّ. فالله يحبّ المظلومين خصوصًا. وإن تضاعف عليهم الظلم، يضاعف الله، الذي لا ينسى أحدًا، احتضانه إيّاهم.
كيف تقنع مستخِفّ بأنّه يناهِض الله الذي لا يناهَض، لا في الأرض ولا في السماء؟ سؤال يصعب عليك الخوض فيه، لتتوخّى منه إقناع مَنْ تحبّه أن يقتنع بالحقّ. ويبقى لك أن ترجو فحسب. فما لا يمكنك أنت الخوض فيه، يقدر عليه مَنْ "كلّ شيء مستطاع عنده". ولذلك شأنك أن ترجو. ترجو، وتحبّ. تحبّ، ما أعطيتَ أن تحبّ، أن "يخلص جميع الناس، ويقبلوا إلى معرفة الحقّ"، وأوّلهم أولئك الذين يتصرّفون كما لو أنّهم لا يريدون أن يُحَبّ الله. أولئك الذين يزكّون أنفسهم بحجج تقنعهم. الذين يعتبرون أنّ الله في صفّهم، وعلى أفواههم في كلّ ما ينطقونه، ولو كان غايةً في المخالفة. ترجو، أي تصرف قلبك، ليحوّل ربُّكَ الصحارى الحارقة إلى بساتين عنب وزيتون، إلى أن يغدو كلّ المتصحّرين أشخاصًا لا يعنيهم أمر كما أن يروا الله في غيرهم، وكما، حيث يقتضي العمل، أن يشمّروا عن سواعدهم، ليشاركوا في العمل. وهل ثمّة من موقع لا يقتضي فيه العمل؟ هذه الكنيسة الرائعة لا ينفعها سوى مَنْ يؤمنون بأنّ الله أرادهم ذوي فعل خير، أي مَنْ يعتقدون بأنّ الناس، لا سيّما الذين يحيون معهم وعلى جنباتهم، هم إخوتهم، "عظم من عظمهم، ولحم من لحمهم". هذا، وحده، يردّ الكذبة اللئيمة التي توهمنا بأنّنا قادرون على أن نحبّ الله على أنقاض الإخوة، أيًّا كان قربهم أو بعدهم. يردّها، أي يطردها إلى خارج حياةِ كنيسةٍ دفعَ ربُّها دمَهُ، ليجمعها، ويوحّدها.
إن قال كبير من كنيسة أنطاكية العظمى: "القريبُ من السيف قريبٌ من الله" (رسالة القدّيس أغناطيوس إلى أهل أزمير 4: 2)، فما من أمر يمنعنا من أن نردّد واثقين: "القريبُ من سيف الألسنة المسنونة قريبٌ من الله". هذه ليست تزكيةً لبشر شأنهم أن يجتهدوا في محبّة إخوتهم من دون أن يدينوا أحدًا، ولا حتّى الظالمين، بل مقابلة تدفعنا أمور عديدة إلى أن نراها ممكنة. هل يمكننا أن ننتظر يومًا نرى فيه من يستخفّون بسواهم يعودون إلى حالة الإخوة التي تأبى، إن أخطأ أحد أعضاء التيّار النهضويّ حقًّا، أن ترشق الرؤية كلّها بالحجارة؟ يجب أن ننتظر. يجب أن نصرف، في الانتظار، عيوننا وأفواهنا وكلّ ما ينبض فينا. فما نحن عليه، الله يعرفه. ويكفينا، دائمًا، أن نعرف أنّ الله "يعرف كلّ شيء". الكنيسة، التي افتديت بدم إلهها، لن يقوى عليها شيء. هذا ليس رجاء فحسب. هذه حقيقة كتبها الله على صفحات تاريخنا، لئلاّ يموت أحد في شرّ أفعاله، ولنحيا له جميعًا إخوةً أنجبتهم محبّة السماء.