22مايو

فتًى مؤسِّس!

في اللغة النهضويّة، يسمَّون "استعداديّين"، أي مجموعة فتيان وفتيات، تتراوح أعمارهم ما بين اثنتي عشرة سنةً وخمس عشرة، يستعدّون لاكتساب عضويّتهم في التيّار النهضويّ.

كنت مارًّا، في ساحة كنيسة رعيّتنا، بعد ظهر يوم سبت. وكان ثمّة فرقة استعداديّين تعقد اجتماعها الأسبوعيّ تحت شجرة شربين تظلّل الساحة. من بعيد، حيّيت أعضاءها برفعي يميني عاليًا. ثمّ دنوت منهم. كان مرشدهم يشغله كلامه معهم. قاطعتهم بسلامي واعتذاري، وقلت لهم: "أريد من كلٍّ منكم أن يكتب، على ورقة يذيّلها باسمه، بضع كلمات يشرح فيها سبب التزامه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة". واتّفقنا على أن يأتوا إليَّ بما كتبوه بعد صلاة الغروب (أي في اليوم عينه)، إن أمكن.

لزمت مكتبي إلى أن آن أوان الصلاة. فدخلت الكنيسة وإيّاهم وبعض إخوة آخرين يحبّون أن "يرتّلوا لله ما داموا موجودين". بعدها، جاء أحدهم، وسلّمني رزمةً من أوراق حملتها معي إلى منزلي.

ما قرأته، كان كلّه عاديًّا، سوى ورقة كُتب عليها شرحًا: "... لأنّني واحد من المؤسّسين"!

على أسفل الورقة، قرأت اسم صاحبها. إنّه فتًى ملتزم. واعٍ. متّزن. غيور على كنيسة الله. يحبّه الإخوة جميعهم. ولكنّ هذه الكلمات، التي خرجت منه، حيّرتني فعلاً! لم أفهم ما الذي أراده منها. أعدت قراءتها مرًّا ومرارًا. ولم أفلح في فهمها. ثمّ خلت أنّه أراد أن يطايبني. هل هي مطايبة فتًى؟ أتراني أبالغ في طلبي معناها؟ وضعت الورقة في جيب ثوبي. كلّ ما فيَّ كان يريده أن ينقذني من هذه الحيرة!

في اليوم التالي، أتى، كعادته، قَبْلَ بدء الصلاة السَحريّة. اقترب منّي. كنّا كما لو أنّنا على موعد. أخرجت الورقة من مكانها. هززتها، وقلت: "يعوزني تفسير. أريدك، بعد القدّاس الإلهيّ، أن تبيّن لي معنى ما كتبته". ابتسم ابتسامةً، على أنّني أعرفها، زادتني حيرة. شعرت بأنّها، هي أيضًا، تحتاج إلى تفسير!

بعد انتهاء الخدمة الإلهيّة، قاربني من فوره. ووقف قربي من دون أن ينبس ببنت شفة.

كان الإخوة المؤمنون يغادرون الكنيسة. سلّمت على بعضٍ منهم أتوا إليَّ قَبْلَ أن "يخرجوا بسلام". وكلّمت اثنين منهم، بسرعة ظاهرة، على أشياء تعني كلاًّ منهما. لم يبقَ سوانا. فبادرته:

- "أنت تعلم أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أسّسها بعض فتيان معروفين في الـ16 من شهر آذار من العام الـ1942. فأنّى لك أن تكون واحدًا منهم، وأنت لم تغازل الخامسة عشرة من عمرك؟".

- "منذ مدّة، قال لنا الأخ ... (مرشدهم): "دعوتُنا أن نعلن، بالتزام طاهر، أنّ كنيسة الله، في هذه البلاد، باقية إلى الأبد بنا وبِمَن يأتون منّا بعدنا... نحن هنا منذ بدء المسيحيّة. وعلينا تقع مسؤوليّة أن نبقى أبدًا". هذا فهمته أنّنا، لكوننا آمنّا منذ البدء، نحن مسؤولون عن بقائنا. وعكسته على التزامي في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. إنّني عضو حركيّ. إذًا، أنا موجود منذ البدء، وساهمت في التأسيس"!

زادت حيرتي، زادت كثيرًا. ووجدت نفسي أبتسم ابتسامته عينها التي لم أفهمها قَبْلاً! يا لهذا الفتى العجيب! إنّه مدهش! هل يعي ما يقوله فعلاً؟ لقد قال، الآن، إنّه، عضوًا في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة يسهم في استمرارها، هو من مؤسِّسيها أيضًا. كيف ارتقى إلى أنّ كلّ التزام حقيقيّ نوعٌ من تأسيس، وتاليًا شركة في تأسيس الانطلاقة؟! يا لعمق فعل روح الله في الإنسان! يا لهذه الحيرة الجديدة! الحيرة الحلوة التي تلفّك بنشوة لا توصف! لم أقرأ، مرّةً، التزامي على أساس هذا المعنى المتوثّب. لا أعني أنّني لم أقرأه تجنّبًا لشرّ الكبرياء، فما سمعته من الفتى لم أرَ فيه كبرياء، بل لم أقرأه جهلاً. أجل، جهلاً. فأنا لم أستطع الارتقاء إلى ما سمعته تفسيرًا الآن. هذا الفتى سبقني. للفتيان قدرة، لا تصدَّق، على العدو!

هذا ما جرى. لم أسأله عن أيّ شيء آخر. أعدت الورقة إلى موضعها من جديد. بدوت كما لو أنّني أخفي أمرًا كشفُهُ يفضحني. وابتعدت عنه، مطأطئًا الرأس، كما لو أنّني كنت أمام مرشدي.

هل ما قاله لي أخذه عن مرشده أيضًا؟ سؤال لم يعنني. فنحن لا نستأثر بفكرنا. إن كان ما سمعته نقلاً أو ابتكارًا، لا يغيّر الحقيقة التي علّمني إيّاها فتًى. (مَن يشارك في الاستمراريّة، يكن من المؤسِّسين). هل هذه كلمات؟ لا، بل هي كلّ الكلمات، هي أعلى الكلمات. إنّها أعلى كلمات في العضويّة الحركيّة.

في طريقي، شعرت بفرح لا يوصف. هذا ما يعتمرني متى علّمني آخر شيئًا كنت أجهله، أو لم أكن أحسن تبيّنه. كانت ثمّة زيارة تنتظرني في المنطقة التي أحيا فيها. أخذت سيّارتي، وقدتها إلى مقصدي. ركنتها إلى جانب الطريق. لم أتركها توًّا. كانت أذناي تضجّان بما سمعتاه، وفمي يردّد. ثمّ نزلت إلى زيارتي. حاولت أن أفصح عمّا كنت أردّده. كان كلامي غريبًا. مَن زرتهم، لم يشارك أيّ منهم في التأسيس!

على الطريق إلى منزلي، أخذني الذين تركوا التيّار النهضويّ. لم يأخذني إخوة محدّدون، بل فكرة أنّ أشخاصًا تركوا عضويّتهم في الحركة! دخلوها زمانًا يسيرًا أو طويلاً، وخرجوا منها. ماذا يمكن أن يقال عن أناس تركوا تيّارًا نهضويًّا تعبوا على تأسيسه؟! كيف يمكن أن يفسَّر تصرّفهم؟ هل يمكن اعتبارهم أنّهم لم يدخلوا الحركة فعلاً؟! هذا السؤال الأخير، الذي يحمل رنّة جواب، لم أقرّره جوابًا، بل قرّرت أن أبقيه سؤالاً، لكي أطرحه على بعض فتيان استعدادُهم الفذّ زوّدهم بلاغةً تبدو فيهم أبديّة.

- مجلّة النّور، العدد الثالث، ٢٠١٣
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content