"حياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كولوسي 3: 3). هذه لقطات تكشف حقيقة قول الرسول. هي سِيَر مأخوذة وقائعها ممّا عرفه قدس الأب إيليّا متري شخصيًّا، أو ممّا رواه له أشخاص أوحوا إليه الثقة. كلّهم ناس يعيشون في الدنيا، في منازلهم، في محالّهم، في الشارع. إنّهم من كلّ الطبقات الاجتماعيّة. قصص توحي أنّ القداسة تعاش في اليوميّ، في العاديّ، حيث الصلاة تصير حياة عند رجال ونساء، أرباب عمل أو خدم غرباء. والمسلك، حتّى يبنيك، لا حاجة فيه إلى لغة. فقراء وأغنياء، ولكنّهم فقراء إلى الله.
وإذا كنت من العارفين تفهم أنّ كلمات لهم تأتي صدى لكلمات القدّيسين التي لم يقرأوها. النعمة تنزل من شفاههم، أو من عيونهم، والنظرة أحيانًا كتاب. قصص تدلّ على أنّ أصحابها إنّما يجيئون من يسوع، من هذه العلاقة المباشرة الحميميّة به، إذ لا يفصلك عنه هذا الزمان الذي انقضى من بعد قيامته، لأنّ هذه تقيمك اليوم إنسانًا سويًّا بالروح القدس، وتقيمك مع الذين تحبّهم، وكأنّكم قاطنون السماء منذ الآن، لأنّ السماء هي ما يسمو بك، ولأنّ الربّ اختار قلبك عرشًا له.
هذه القطع الصغيرة تنقل إلينا ما سمّاه بولس الرسول بساطة المسيح، تلك التي تحرّرك من تعقيد التذاكي ومن الغرور، وتجعلك للسيّد أيقونة حيّة. ولكن حتّى يجعل الأب إيليّا القارئ أيقونة أيضًا يفسّر ويعلّق، وإن كانت القصّة، في وقائعها، تتكلّم من ذاتها، أي أنّه يجعل الواقع أدبًا، أدبًا لا يخون الحقيقة. هذا تيسير للقرّاء، أو تبليغ للتبليغ الإنجيليّ. وهذا ما نفعله في الكنيسة إذا حاولنا نقل الكلمة الإلهيّة التي تسربلها كلماتنا من دون إضافة جوهر بشريّ إلى جوهرها.
إنّ ما حصل لكلّ هؤلاء، الذين يذكرهم المؤلّف، إنّما كان يحصل لهم بفضل انتمائهم إلى كنيسة الله. فهم منها، ولو لم يكونوا، في ظرف شهادتهم، قائمين فيها للعبادة. فأنت تأخذ الكنيسة معك حيثما حللت، ويرى الناس في سلوكك عبادة. ما يجمع هؤلاء جميعًا أنّهم مجروحون بالكلمة. وإذا نزلت فيهم حقًّا يشاركون الآخرين ممّا عندهم. فأنت لا تأخذ منهم فقط كلمات حلوة، ولكنّك تأخذ عطفًا وصبرًا ومغفرة. وهم لا يسعون أن يكسبوا صداقتك، ولكن أن يرتفع قلبك إلى الله. يلتقونك فيه، إذ كان سرّهم أن يحتجبوا، وأن يبدو فقط وجه يسوع الحلو. هم يرتفعون بالصلاة فترتفع أنت، وذكر الصلاة كثير في هذا الكتاب. وكذلك ذكر الألم الذي إذا اقتبلناه، بطاعة، يطهّرنا. كلام وجرح، فقد ابتدأ المسيح بشارته بالكلام، وأنهاها صليبًا اقتبله، فوضحت الكلمة، وأغنت، وصلبنا بها شهواتنا لننال القيامة التي هي المسيح.
حوادث حدثت، وفعلت، ووصلت إلى الكاتب، فأصغى إليها، وألبسها وشاحًا مضيئًا، لتبلغ قارئًا كان أحيانًا يظنّ أنّ سِيَر القدّيسين الأوائل هي، وحدها، عظيمة. غير أنّ كاتب هذه الأحداث الصغيرة إنّما قدّم لنا ما يجعلنا نفهم أنّ "المسيح هو إيّاه أمسًا واليوم وإلى الأبد" (عبرانيّين 13: 8) لنحيا به.