قَبْلَ أن يقبض هيرودس عليه ويلقيه في السجن، كان يوحنّا يعمِّد في عينون، بالقرب من ساليم، لِما فيها من ماء. فقال له تلاميذه: "رابّي، ذاك الذي كان معك في عبر الأردنّ (أي عمَّدته أنت)، ذاك الذي شهدت له، ها إنّه يعمِّد، فيذهب إليه جميع الناس". سمعهم، وذكّرهم بأنّه قال إنّني لست المسيح، بل مُرْسَلٌ أمامه (يوحنّا 3: 22- 28). ثمّ نادى: "مَنْ كانت له العروس فهو العريس / وأمّا صديق العريس الذي يقف يستمع إليه / فإنّه يفرح أشدّ الفرح لصوت العريس، فهوذا فرحي قد تمّ" (الآية الـ10).
قَبْلَ أيّ كلام، ثمّة سؤال تطرحه هذه الآيات المنقولة، وهو: "هل عمَّد يسوع أحدًا؟". ما يلاحظه قارئ هذه السطور أنّنا وضعنا، بين قوسين، تفسيرًا لقول تلاميذ يوحنّا إنّ يسوع "كان معك في عبر الأردنّ"، قلنا: أي عمَّدته أنت. وهذا، تفسيرًا، يقابله أنّ ثمّة مَنْ اعتقد أنّ يسوع، قَبْلَ أن ينطلق في كرازته، عمَّد (في الأردنّ) أيضًا. هل يعني هذا أنّه تتلمذ على المعمدان حينًا؟ ليس في العهد الجديد أيّ إشارة تبيّن ذلك. ونعرف، في قراءتنا إنجيل يوحنّا الذي سجّل نقلاً أنّ يسوع عمَّد، أنّه، في إصحاحه الرابع، قال: "مع أنّ يسوع نفسه لم يكن يعمِّد، بل تلاميذه" (الآية الـ2). هناك، إذًا، حركة عماديّة أطلقها يوحنّا، وَقَبِلها يسوع (وشارك فيها تلاميذه). هذا، إذا لم ننسَ أنّ يوحنّا قال في يسوع إنّه "سيعمِّدكم بالروح القدس والنار" (أنظر: متّى 3: 11 وما يقابلها)، هو، فحسب، ما علينا التزامه جوابًا عن السؤال المبيّن هنا.
إلى ما قلناه، نجد، في الأناجيل، مقابلاتٍ عدّةً ما بين المعمدان ويسوع. فهنا، مثلاً، عندنا، مقابلةً، أنّ يوحنّا هو صديق العريس، ويسوع هو العريس. وثمّة مقابلة أوردها يوحنّا الإنجيليّ، في مطلع سِفره، بتبيانه أنّ المعمدان جاء، ليشهد للنور الذي هو يسوع وحده (1: 6- 10). وعندنا المقابلة الشهيرة عمومًا، أي أنّ المعمدان هو صوت (أو كما قال المغبوط أغسطينوس: هو "أُذن") فيما يسوع هو الكلمة "الذي ينير العالم بما يقوله"... وإذا دقّقنا في معنى الصفة التي اخترناها عنوانًا لهذه المساهمة، نعرف أنّ "صديق العريس"، الذي كان يُسهم في تهيئة العرس، ينتهي دوره عندما يلتقي العريس بعروسه.
إذًا، عبارة "صديق العريس" تؤكّد وعي يوحنّا أنّ رسالته هي رسالة تمهيديّة حصرًا. هذه كانت قناعته التي لم يخفها عَمَّنْ كانوا مقرَّبين منه، وقالها العهد الجديد علنًا في غير موضع، ولا سيّما في حجبه يوحنّا عن عمله بعد أن "ظهر يسوع" يكرز في الجليل. وهذا ما يجب أن نقرأه في قول تلاميذ يوحنّا: "فيذهب إليه جميع الناس". لقد تلقّى يوحنّا، من أفواه أتباعه، ما يعرفه: أنّ دوره قد اكتمل، أو وفق تعبيره: "فهوذا فرحي قد تمّ". تمّ فرحه برؤيته أنّ العروس، أي "جميع الناس"، تزفّ إلى يسوع عريسها. هل يجب أن نراه يحضّ تلاميذه، وَمَنْ سيستحسنون رسالته في غير جيل، على أن يسرعوا الخطى في إثر يسوع؟ هذا ما فعلته الكنيسة، طاعةً، بوضعها صورة المعمدان على حامل الإيقونات، أمام وجوه المؤمنين، يشير إلى يسوع. خدمة يوحنّا المعمدان إنّما هي خدمة تعدّ لظهور الربّ الذي ينهيها.
لا يعطينا السياق التاريخيّ أن نسأل: لِمَ يوحنّا لم يركض، هو أيضًا، مثل الناس جميعًا، في إثر يسوع؟ فما أخذناه من فمه، يبيّن أنّه قد أُسلم، توًّا، بعد أن انطلق يسوع في كرازته (مرقس 1: 14). يوحنّا الإنجيليّ، في هذا السياق، ذكر أمر القبض على المعمدان، إنّما حدثًا لم يكن قد تمّ بعدُ. أراده صوتًا حرًّا ينادي، في ضمائر سامعيه (دائمًا): أن اتبعوا العريس. لا تأتوا بعدُ إليَّ. فرحي أنّه ظهر. وفرحكم أن تمشوا في إثره. فرحكم، يا شعب الله، أن تسرعوا في إثر الربّ الذي يسرّ بكم كما يسرّ "العريس بالعروس" (أشعيا 62: 5). لقد قرأ المعمدان، بصوتٍ عالٍ، ما جاء في الكتب، وغنّى لا سيّما "نشيد الأناشيد".
هل هذه رسالة يوحنّا المعمدان فحسب؟ لعمري لا، بل رسالة الكنيسة في غير جيل. فالكنيسة، عروسًا، شأنها، في غير زمان ومكان، أن تبقى تدرك أنّ دعوتها أن تدعو الناس إلى عريسها. هذا ما فهمه بولس، فجاد علينا بقوله: "فإنّي أغار عليكم غيرة الله، لأنّي خطبتكم لزوج واحد، خطبة عذراء طاهرة تُزفّ إلى المسيح" (2كورنثوس 11: 2؛ أنظر أيضًا: أفسس 5: 27). بهذا المعنى، صوت يوحنّا يجد صداه في الجماعات المؤمنة على مدى التاريخ. كلّ مَنْ آمنوا بأنّ يسوع هو عريس الكون إنّما عليهم أن يفرحوا به، وينادوا، على الملأ، بالفرح به أيضًا. هذا ليس إيقاظاً لرسالة كُشفت أنّها تمهيديّة، بل ضمّ. فالكنيسة شأنها أن تضمّ صوتها إلى كلّ صوت طاهر رأى إلى المسيح عريسًا. إنّها نوع من صداقة أيضًا. صداقة للحقّ. وصداقة للنبوءة. وصداقة للطهر. وصداقة لكلّ امّحاء، رأته، أقرّ بأنّ المسيح هو الكلّ.
يبقى لنا سؤال أخير: أين تحقّقت عبارة أنّ يسوع هو العريس؟ والجواب: على صليبه. هناك، نفّذ يسوع عرسه. لقد التحم بعروسه التي هي شعبه. ليس من عرس يتمّ بسوى الدم. لقد كان قول يوحنّا عن "العريس" نبوءةً جليّةً عن صلبه المحيي. ألم يقل عنه فيما رآه سائرًا أمامه: "هوذا حمل الله" (يوحنّا 1: 36)؟ جميلة هذه الرؤية. إنّها تستبق الآتي. إنّها تظهر يسوع، دائمًا، منطلقًا إلى صليبه. فهو من أجل أن يفدي البشريّة إنّما أتى. هذا هو العرس الذي جاء يوحنّا، ليعدّه. هذا هو الحدث الذي كان يتهلّل له. قالوا له إنّه يعمِّد. ونحن، عالمين بتمام العرس، يجب أن نسمعه يستبق أنّ كلّ شيء قد تمّ!