"ما جئت لأُخدَم، بل لأَخدُم"
منذ أن حللتُ خادمًا في رعيّتنا في الحازميّة، ارتبط وجه إلياس دانيال عندي بإيقونة يسوع الخادم. الكلمات العزيزة، التي خرجت من فم الله، لتُكشف قوّتُها ببلاغة مربّية، تطلب أمثلة. أمثلة أيْ إيقونات. أنت لا تكون موضوعيًّا، إن أردتَ أن تشهد لله، إن دللتَ على كلمات (فقط). الكلماتُ فعل. إن أردتَ أن تُظهر قوّة الشهادة، يجب أن تُعطى أن تقول لمَن تريد أن تشهد له: "تعال وانظر". الشهادة تحتاج إلى وجوه، إلى أناس جعلهم الله لك ولغيرك كلماتٍ عزيزة.
كان إلياس دانيال، بهذا المعنى، كلمةً عزيزة.
قلت: منذ أن حللتُ خادمًا، تكشَّف إلياس لي إيقونةَ خدمة. هذا منذ أكثر من ثلاثين سنة. أتيتُ معه من عمله إلى البيت، أو خرجت معه من البيت إلى حياته في الدنيا، عدتُ لا أذكر. ولكنّ الأكيد منه أنّه كان هو هو في غير حال، في البيت، في الوظيفة، مع أهله، مع أصدقائه، مع جيرانه، مع السماء والأرض. تُحبّون أن تقولوا عنه تحبّبًا أو التزامًا: الخال. ولكنّ الكلمة فيها من رائحة الحبّ المعطى ما يُبديه رجلاً مبذولاً. قليلاً ما تجد أشخاصًا في الدنيا لا يهتمّون بأنفسهم. كان إلياس دانيال لا يهتمّ بنفسه، أو كان يهمّه الآخرون قبل نفسه.
سأخبركم شيئًا.
أوّل مرّة طلبت من إلياس أن يساعدني على دفع ما يتوجّب عليّ للدولة عن سيّارتي، أقنعني بأنّ هذا الواجب يُعطى له مجّانًا (أي من دون بدل مادّيّ)! صدّقته. هذا ما بقي حالي معه سنين لا بأس بها. لا يمكنكم أن تقدّروا حرجي عندما علمت أنّ ما قاله يستحيل أن يكون صحيحًا، أي أنّه كان هو يدفع عنّي ما كان يجب عليّ أن أدفعه. كيف لم أعلم؟ استطاع هو، الخال، أن يغلبني بصدق عجيب. أقنعني، أجل أقنعني الحبُّ المعطى أنّه صادق. الكرم قناعة. عندما دفعت متوجّباتي أوّل مرّة، احتلّ وجهَهُ خجلٌ عظيم. كسرته! أشعرني كما لو أنّني أدفع عنه ما يجب عليه هو أن يدفعه عن نفسه! غلبني في كرمه. قلتُ: كسرته! ولكنّه، في خجله، كسرني من جديد.
أحبّ، اليوم، أن أثمّن علنًا هذه الصفة التي أطلقت على إلياس دانيال: الخال. الخال، هكذا بشكل مطلق كما لو أنّ الصفة هي بدل من الاسم الذي أطلقه عليه أبواه. إن أتينا من الواقع، إلياس دانيال عاش عازبًا، أي لم يتزوّج بامرأة، وتاليًا لم ينجب من صُلبه بناتٍ وبنين. ولكنّه لم يكن خالاً فقط. كان خالاً وعمًّا، أو عمًّا وخالاً. طغى على إلياس دانيال هذا الالتصاق بشقيقةٍ له وأولادها المحبوبين، وهم جميعهم أصدقائي. لست هنا لأستعرض ما فعله الخال في إعطائه حياته لهذا البيت الأخويّ الذي احتضنه منذ أن رقد صهره، أي والد الأولاد. الذي يلفتني في الصفة أنّها ليست واقعًا فقط، بل وعي أيضًا. واقع، معلومٌ لِمَ. الرجل أخو شقيقته المترمِّلة. ولكنّ هذا الاحتضان الكلّيّ الذي يحتاج إتمامه إلى أكثر من أب، لا يفعله خال. كان إلياس دانيال أكثر من أب. ولكنّه التزم وعيًا أنّه الخال. أعتقدُ جازمًا أنّ صفة القرابة هنا، بشكل حصريّ فريد، كلّها انحجاب. لم يقبل إلياس، الذي كان أكثر من أب، أن يكون ما لا يحقّ له فيه. كان الخال. ليس من خدمة تدلّ على الكلمات العزيزة إن لم يكلّلها انحجاب. كلّ إنسان نفسه. أمّا الخادم، الخادم الحقيقيّ، فمنحجب. سَمِّهِ ما شئت. هو يعرف أنّه المنحجب. عندما قال يسوع: "ما جئت لأُخدَم، بل لأَخدُم"، لم يكن يتكلّم فقط على تعليمه والعجائب التي صنعها، بل على انحجابه الأعظم، على موته ودفنه من أجل حياة العالم. قال يسوع: "ما جئت لأُخدَم، بل لأَخدُم، وأفدي بنفسي جماعة الناس". هذا كلّه لا يجعل إلياس دانيال عظيمًا (فقط)، بل أعظم من عظيم.
ذهب الخال. ولكنّ المُحبّين، إن ذهبوا، لا يغيبون. يبقون في الله وفي القلب وفيما تركوه من إرث حيّ لا يغلبه موت. كان إلياس حبًّا. يبقى أن نقبل ما كان عليه، ونكون نحن حبًّا مثله، حبًّا فقط.