قال الرسول: "نحن الذين لا يسلكون سبيل الجسد، بل سبيل الروح" (رومية 8: 4).
أمّا سبيل الجسد، فهو الخطايا بعامّة. هذا معنى يعرفه مَنِ استطابوا أن يتتلمذوا على "فكر المسيح" (1كورنثوس 2: 16). فبولس يفصح، في غير موقع، أنّ مَنْ يرتكب خطيئةً، عارفًا أو جاهلاً، يغدو كلُّهُ خطيئة. وخير موقع قولُهُ: "أميتوا أعضاءكم التي في الأرض بما فيها من زنًى وفحشاء وهوًى وشهوة فاسدة وطمع وهو عبادة الأوثان" (كولوسّي 3: 5). ويمكننا أن نلاحظ، من دون أيّ جهد، أنّ أعضاء الجسد، في هذا القول، تغدو الخطايا التي يعدّدها. العين تبطل عينًا، بل تصبح إثمًا. وهكذا اليد وأيّ عضو آخر.
أمّا سبيل الروح، فهو الحياة وفق شريعة الروح التي كتبها الله على لحم قلوبنا.
"نحن"، قال بولس. ويا لَحلاوة هذه الـ"نحن" التي لا يقصد فيها نفسه حصرًا، بل يجمع المؤمنين إليه! وهذا لا يفعله سوى المحبّين. هؤلاء، وحدهم، لا يمنعون عن الناس خيرهم (أي لا يحتكرون النعم). وبولس من المحبّين. أوّلهم. حتّى الجماعة التي تدين له بالتزامها، لا يرى نفسه فوقها. المسؤول الحقيقيّ هو مَنْ يرى خير الإخوة، أو ما يمكن أن يصبحوه، بل مَنْ يفضلهم وخلاصَهم على نفسه. من أين تنبع هذه الرؤية الفضلى؟ من ثقة بالربّ المُنعم. فأن تعرف أنّ إنعامات الروح لا تُحتكر، أمر يحرّكه إيمانك بأنّ يد الله قادرة على أن تخلق إنسانًا جديدًا يجسّد سبيل الروح بفكره وقلبه ونفسه، أي في حياته كلّها.
بلى، هذا، على واقعيّته، لا يخلو من رجاء. فبولس لا يحتقر اليقظة بحلم واهٍ، أي لا يغمض عن أمور ربّما تزعجه. لكنّه، واثقًا بفعل النعمة، يريد كلمة الله أن تسود حياة المؤمنين جميعًا. المسيحيّة، التي كلِّف أن يحملها في حلّه وترحاله، يريدها قاماتٍ مشدودةً نحو المجد. ليس، في كرازته وتعليمه، من خيرٍ مقطوعًا عن الحاضر. فالمجد لا يُرجأ. الله، "الآن وهنا"، قادر، بنعمه، على أن يحوّل كلّ برّيّة إلى بستان، وظلمة إلى نور. نحن الذين نسلك بالروح، تقول قدرة الله الكلّيّة. تقول. تفصح. تنادي. ترجو. وتهدم كلّ التزام أجوف لا يبيّن حياة المجد واقعيًّا. لا تهدمه إدانةً، بل لتبنيه من جديد. وهذا، إن أردنا أن نوافق حقّ الله، شأننا نحن مسيحيّي اليوم. شأننا، لا بل كلّ شأننا أن نؤمن بفعل النعمة، فينا وفي الناس جميعًا. كلّ شأننا أن نعتقد أنّ الله ما زال يشرق شمسه على الصالحين والأشرار، ويمطر على الكلّ من دون أيّ تمييز. أين؟ إن سألْنا أين هم المسيحيّون الذين يسلكون بالروح اليوم، نرتكب إثمين. أوّلهما شكّ في فعل النعمة المخلِّصة. وثانيهما احتقار للخير الموجود. وما بين الإثمين إثم ضياع أنّنا، بالنعمة، قادرون على أن نضع ما نسأل عنه. أن نرى الناس أسرى الجسد، أن نعرف أنّ كنيستنا ولدتهم بالروح فيما هم يحيون في عقم فاضح، أن نتركهم غرباء فيما يتوهّمون أنّهم قريبون قريبون، أن نقبل أن يعادوا الحقّ بغياب عن الحقّ جارح يُعطونه ألف تبرير وتبرير، أن نرى كلّ هذا، ونتفاصح بأيّ سؤال يستفحص ضياع الخير، يعني أنّنا لا نسلك بالروح. أن نسلك بالروح، لهو أن نجمع أنفسنا إلى الكلّ، ونسعى إلى خلاص الكلّ.
كيف لهذا أن يتحقّق فعلاً؟ هذا لا يتمّ بسوى أن نخدم سيادة الكلمة. هذا سبيل هذا مادّته. والكلمة، التي تطلب أن نخدم سيادتها، تطلب أن تسودنا أوّلاً. هل كان للرسول أن يقول "نحن نسلك بالروح" لو لم تكن كلمة الله، نزيلةَ قلبِهِ، تسوده كلّيًّا؟ لا يمكن! هي التي جعلته يدرك أنّ قلوب الناس جميعًا خُلقت، لتكون صفحاتٍ لها، أي يدرك قدرتها على الآذان الصمّاء والرقاب القاسية وبقع الموت وصحارى الأرض. ما قاله واقع. واقع، إن كان ممكنًا له، فللآخرين أيضًا. إنّه، حيًّا بالكلمة، يثق بأنّ تكليفه أن يخدم الحياة في الأرض. إنّه يكره أن يرى الموت يسيطر، وإن على إنسان واحد. قوله، الذي فسّر فيه ما قاله عن السلوك بالروح، أي: "الذين يحيون بحسب الجسد ينزعون إلى ما هو للجسد، والذين يحيون بحسب الروح ينزعون إلى ما هو للروح. فالجسد ينزع إلى الموت. وأمّا الروح، فينزع إلى الحياة والسلام" (الآيتان 5 و6)، (هذا القول) يبيّن إصراره على أن يحيا الكلّ في سلام أبديّ. ليس لخادم أن أن يدين أحدًا. هذه وقاحة! كلّ ما للخادم، فيما يحيا بالكلمة، أن يمدّ حياتها في الأرض، ليفطن الناس جميعًا، مَنْ يطيعها منهم وَمَنْ لا يفعل، إلى سبيل خلاصهم. هذا، وحده، يدلّ على إيمانه بأنّ الكلمة حياته وحياة العالمين في آنٍ.
هما أمران، إذًا. أمران يقولان المسيحيّة كلّها. أوّلهما أن نكره الخطايا حيث نراها تمدّ رأسها (فينا أو في أيّ إنسان آخر). وتاليهما أن ننزع، بالروح الحيّ فينا، إلى الحياة والسلام، أن ننزع معًا دائمًا. فالرسول، بقوله عنّا: "نحن الذين يسلكون... سبيل الروح"، أرادنا، أيضًا، أن نحيا حياة الطهر جماعيًّا. كلّ الحياة الكنسيّة أنّنا إخوة مسؤولون كلّنا بعضنا عن بعض. بما قاله، لا يعلّي الملتزمين ويضرب المتقاعسين، أي لا يؤسّس لالتزام تافه لا يعبأ بما يجري حوله من خير أو من شرّ، بل يسنّ أنّ الجماعة حلف صلد ضدّ الخطيئة فيها أوّلاً وفي العالم دائمًا. شأنها كلّها أن تتضافر، لتبيد كلّ إثم يُرى نزيل أيٍّ كان. نحن نسلك، أي كلّنا يجب أن نسلك. نحن نسلك، أي نحن كلّنا لا نرضى أن يعرج أحد ما بين البرّ والإثم، أو يسقط آخر. أيّ سقوط، لا يبرّر أحدًا واقفًا. المسيحيّة معيّة يقول كلّ مَنْ فيها: أو نموت كلّنا، أو نخلص كلّنا.
كلّ جماعة أدركت أنّ مجد الله قد سكنها منذ الآن، سبيلها أن تمشي بالروح، معًا، باتّجاه اكتماله.