2أبريل

سامي أبو خالد

2 نيسان 2012

"أنا أقبل كلّ ما يسمح لي الله به. ما يسمح لي به، هو هدايايَ المفضّلة"!

أيّها الأحبّة،
يصعب عليكم أن تعرفوا أنّني استهللت هذه العظة بكلمات اقتبستها من فم مَنْ نودّعه اليوم. يصعب عليكم أن تعرفوا، أو ربّما أن يقبل بعضُكم أو معظمُكم. إذ حقّكم أن تسألوا: أنّى لواعظ أن يستحلي كلماتٍ من خارج كتبنا؟ وهذا سؤال أردّ عليه بأنّنا، نحن معشر المسيحيّين، لا نعتقد أنّ الله أقفل وحيه. لا يعني هذا أنّنا نعتقد أنّ ثمّة كلمةً يمكن أن تضاف إلى كلمة الله التي أتتنا دفعةً واحدة، بل أن تشرحها. وهذا وحي أيضًا. وإذًا، سأحاول، في مطلع عظتي، أن أرى ما الكلمة التي تشرحها هذه العبارة التي استهللت بها كلمتي.

أوّلاً، يعنيني أن تعلموا بأنّ هذه العبارة قالها لي سامي أبو خالد في خلوة جمعتني به، في غرفة العناية الفائقة، في المستشفى التي كان نازلاً فيها. وقالها في الليلة التي علم فيها أنّ يدَهُ ستُبتر. لا يمكنني أن أصف حميميّة ذلك اللقاء السرّيّ الذي ضمّني وحدي إليه، أو أعبّر، بكلمات، عن الرقّة الواثقة التي كانت تزيّن ثغره فيما خرجت منه. كنت أعرف أنّ ثمّة انسجامًا كبيرًا يجمع بيننا. وأعرف أنّه قد أسرّ بهذا إلى زوجته. وحدَّدَ قال: "متّى صلّينا معًا". ولذلك لا أسبغ على العبارة ما لا تعنيه إن وضعتها كلّها، حرفًا تلو رفيقه، في إطار صلاة. والصلاة تسليم واثق. إنّها أن تنسكب أمام الله، أو أن تسلّم نفسك له كلّيًّا. تسلّم نفسك له، أي تضع، بين يديه، حياتك وأفراحك وتقلّباتك ومصاعبك وجنونك.

ثمّ يمكنني أن أشتمّ، في العبارة، العطر الذي تضوّع من فم العذراء مريم فيما كانت تردّ على الملاك جبرائيل يوم أتى يبشّرها بولادة المخلّص، أي قولها: "انا أمة للربّ، فليكن لي بحسب قولك". ذلك بأنّ أعلى هديّة، أجل أعلى هديّة على الإطلاق، أن تطيع الله في كلّ شيء. بلى، أعرف أنّنا، بمعظمنا، نعتقد أنّ الطاعة هي جهد بشريّ، أو حركة الإنسان إلى الله، انفتاح عليه أو على كلمته المحيية، انفتاح مقبول. ولكنّ هذا الاعتقاد، على أهمّيّته، يغدو لا قيمة له إن لم يظلّله أنّ أيّ جهد أو حركة أو انفتاح إنّما الله يحتضنه، ويكون فيه. فنحن، إن أردتُ أن أصف الطاعة بكلام دقيق، نمشي بالله إليه. هذا يشرّع ما قاله، مرّةً، أحد آبائنا النسّاك الكبار الذي علّى الطاعة فوق التوبة. لم يقصد أنّ التوبة لا قيمة لها في مسرى الحياة، بل أنّ قيمتها في أنّها تسترجع الطاعة. ما من أعلى من الطاعة.
صلاة وطاعة. إن أردت أن أختصر حياة سامي، لَما وجدت أفضل من هاتين اللفظتين: صلاة وطاعة.

بدأت من الأخير، من الآلام الأخيرة التي نالها هذا الأخ الذي أحبّ أن أدعوه صديقي. وكان عليَّ أن أبدأ من تلك الأيّام المرهقة التي هُجّرتم فيها من هنا. فمن هناك، بدأت علاقتي بسامي. ولكنّني لا أحسب نفسي قد خالفت بدء علاقتي به إن قلت، بثقة، إنّ الرجل كان ما كان عليه منذ أن لفح وجهُهُ عينيَّ. وهل الثابتون سوى المصلّين الطائعين؟ أن تصادفك في الحياة لعناتٌ لا تستحقّها وتصبر، أي تثبت راجيًا أن يحوّل لك الله براريك إلى جنان ريَّا، لهو أنّك تعرف أنّ لله "الدنيا وجميعَ الساكنين فيها". نحن، في هذه الكنيسة الأرثوذكسيّة، لا نعيد الشرور، التي تضربنا من دون إذن، إلى الله. بلى، نحن نقول إنّه يعرف ما سيصيبنا قَبْلاً، يعرف كلّ شيء. في مطلع شبابي، قرأت كتابًا من نحو أربعمئة صفحة تكلّم واضعه على الفرق القائم، في التراث المسيحيّ، ما بين معرفة الله وإرادته. وهذا يمكنني أن أختصره بعبارة واحدة. وهذه: أنّ الله يعرف كلّ شيء، لكنّه لا يريد لنا سوى خلاصنا. فـ"إرادة الله خلاصكم". وإذا استرجعت هنا القول الذي افتتحت به هذه الكلمة، لا أرى أنّ قائلها عنى بها أنّ الله مسؤول عمّا أصابه، بل أنّ الله، عارفًا، هو الكفيل به. هذا هو التسليم الأعلى: أن ترى أنّ الله قادر على أن ينتشلك من أيّ جحيم. وأيضًا، نحن، في كنيستنا، لا نقول إنّ الله يحصر انتصاره على مصاعبنا بأشكال محسوسة دائمًا. هذا قد يفعله طبعًا. لكنّه، المنتصر أبدًا، قد يغلب مصاعبنا وآلامنا في موتنا أيضًا. المؤمنون الكبار لا يتمنّون الموت. يكرهونه. يعرفون أنّه العدوّ. يأتي المؤمنون الكبار من أنّ الربّ، الذي غلب بموته الموت، قادر على أن يغلب ميتاتنا كلّها أيضًا، بل غلبها فينا أيضًا.

في آواخر زياراتي لسامي، قلت له: "كنت رجلاً منطقيًّا في حياتك كلّها". لم أكن أريد أنّك، يا صاح، لا تقدر على أن تنهار أمام الألم ومراراته التي تكرّرت عليك بإيقاع يزعزع الجبال. فنحن بشر. لكنّني كنت أريد أنّنا، إن انهرنا، فعلينا أن ننهار بين يدي الله. ربّما كلّنا نفضّل أن نشبع من الأيّام، أي أن نرى أولادنا وأحفادنا يكبرون أمام عينينا. وهذا تمنٍّ مبرور. ولكنّنا نعلم، أو يجب أن نعلم، أنّ شأننا، مربّين، أن ندرك أنّ الله هو أبونا جميعًا. تنتهي التربيةُ وفصولُها المتشعّبةُ كلُّها عندما نرى أولادنا وأحفادنا قد أدركوا أنّ الله أبوهم. ويمكن أن يقول أيٌّ منّا لله بثقة: "الآن، أطلق عبدك". يمكنني أن أردّد على مسامعكم أمثالاً لا تنتهي عن أنّ أولاد سامي وأحفاده الصغار عادوا لا يجيئون من سوى أنّ الله أبوهم. هذا عزاء لا بدّ من أنّه أرضى عينيه الوديعتين. لقد خرج صديقي إلى قبره راضيًا بمحبّات تكشّفت له. لم يقل لي إنّه فَرِحٌ بالهدايا التي قدّمها إلى الله. هذا منعه الخفر منه. منعه هتك المروءة. هتكها، أو علمه بأنّ "كلّ عطيّة صالحة تنحدر من فوق". ذهب سامي إلى الله فقيرًا إليه، إنّما غنيًّا بما جنى واستودع.

يمكنني أن أتكهّن أنّكم تنتظرون أن أختم هذه الكلمة بأن أعزّيكم، أنتم يا إخوتي، يا آله وأصدقاءه، ولكنّ فرحي بأيّام طويلة، كان سامي فيها لنا أغنياتِ فرحٍ تحفّ به أجواق الملائكة يعزفون له، تجعله، في قلبي، عزاء وعهدًا أن أعي، وأن أرجو أن تبقوا على وعيكم، أنّ حياتنا، كلّها كلّها، أنّ الله يهدينا إليه أبدًا، آمين.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content