5أبريل

زكا العشار

تعوّدتني مدينتي. مهنتي، رئيس العشّارين (جُباة الضرائب)، تؤهّلني لأن ألقي عليها بظلّي شارعًا شارعًا، وبيتًا بيتًا. وأريحا، مدينتي، السيرُ على طرقاتها، أكان دافعه العمل أو أيّ شيء آخر، قصّةٌ تُذكّر بتاريخ طويل يعود إلى ما يزيد على الألف سنة. فهي مدينة راحاب التي سحرت توبتها كلّ مَن عرفها (يشوع 2: 1). والمدينة التي هدمها أجدادي يوم دخلوها (يشوع 6). والمدينة التي أعاد بناءها حيئيل الذي من بيت إيل "بحياة بكره أسّسها وبحياة سجوب، أصغر بنيه، نصب أبوابها" (1ملوك 16: 34). والمدينة التي زارها النبيّ إيليّا وتلميذه أليشاع (2ملوك 2: 4- 6). وأنا، هنا، اليوم، موجود على طرقاتها. لم تدفعني أمور تتعلّق بعملي، أو استعادة قصّة، مهما روت ذاتها عليَّ، لا يمكن أن تصيبني بأيّ ملل، بل أمر آخر. لقد وصل إليَّ خبرٌ عن رجل عظيم سيزور مدينتنا، رجلٌ شهرتُهُ سبقته إلينا. وأردت أن أراه. إنّها فضوليّة، أو رغبة في التعرّف (لوقا 19: 1- 10)! علمتُ أنّه، صاعدًا إلى أورشليم، لا بدّ من أن يمرّ بنا. وأنا هنا!

عندما أتى، لم أتمكّن من رؤيته. كان الناس، الذين يتجمّعون حوله، كثيرين كثيرين. وكانت قامتي القصيرة عائقًا آخر. لم أوفّر جهدًا! كانت هناك، أمامي، شجرة جمّيز قديمة، تكاد تنطح السحاب، إنّما أغصانها السفلى تكاد تلامس الأرض. فأسرعتُ، وصعدتُ إليها قَبْلَ أن يجتاز بها، لأراه. كيف أتتني هذه الفكرة؟ لا أعرف. لم يكن همّي أن أتحاشى قومي. كنتُ أعرف أنّهم يكرهونني والذين يعملون معي جميعًا. ولكرههم أسبابٌ وجيهة! فأنا أقوم بوظيفتي بتكليف من الرومان الذين يستعمروننا. وصيتُ مَن يزاولون مهنتي غايةٌ في السوء. وغناي ربّما يعتبرونه غنًى غير مشروع. إذًا، هم يكرهونني. وأنا أفهمهم! ولكنّني لم أُرد من صعودي أن أتجنّب أيًّا منهم. فأنا لا أهاب أيًّا منهم. هم يهابونني كلّهم. صعدتُ، إذًا. لم أعتبر تصرّفي عيبًا. ربّما مَن رأوني اعتبروه عيبًا. لا أعرف. أمّا أنا، فلا. ولم أعتبره مشاركةً في حدث كان يهمّني كما رأيتُهُ يهمّ سواي. ربّما سواي. أنا، لا! ما دفعني إلى صعود الجميّزة، قلتُهُ: رغبتُ في أن أراه!

ما حدث إلى الآن، كان من تصميمي. وأدهشني أنّ مَن رغبتُ في أن أراه "رفع طرفه إليَّ، ورآني". هل علم برغبتي؟! لكنّه، عندما ناداني باسمي ودعا نفسَهُ إلى بيتي، زاد من دهشي، وانتابني شعور يصعب وصفه. قال لي: "يا زكّا، أسرع انزل، فاليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك"! لم أفكّر، لحظةً، في أنّ أحدًا أخبره عنّي. فأنا، فوق، أرى كلّ شيء. ولو سُرّب إليه شيئًا عنّي، اسمي مثلاً، لعرفت. وحده، عرفني! وهذا أقنعني بأنّ له رغبةً، أقوى من رغبتي، في أن يراني، وأنّه يعرف كلّ شيء. لم أقدر على أن أقاوم دعوتَهُ نفسَهُ إلى بيتي. ورأيتُ نفسي أنفّذ ما قاله حرفيًّا. "فأسرعتُ، ونزلت". قال لي: أسرع انزل". وأنا "أسرعتُ، ونزلت". أنا خبير في لغة الآمر. وأمّا أنّني أطعتُهُ، فأمر جاء من ذاته. طاعتي إيّاه حرّكتني إليها كلماته! وسلّمت ذاتي إلى تصميمه. هل اعتبرَ صعودي على الجمّيزة حوارًا قد بدأتُهُ معه؟ أنا لم يكن قصدي أن أحاوره. كان أن أراه فحسب. لكنّ ما قاله عن نزولي، كما لو أنّه ردّ على صعودي، جعلني أفكّر في أنّه قد يكون اعتبره حوارًا. ودخلتُ في الحوار الذي لم يكن من تصميمي. ألم يذهلني أنّه طلب أن يمكث في بيتي؟ بلى، أذهلني كثيرًا! أنا، مكروهًا، لم أفكّر في أنّ أحدًا يمكنه أن يقبل زياراتي. و"قبلتُهُ فرحًا".

عندما نزلتُ إليه ومشينا معًا، أخذ الجمع يتذمّرون. وسمعتُهم يقولون: "دخل، ليحلّ عند رجل خاطئ". سمعهم، وسمعتُهم. لم أشعر بأنّ ما سمعناه أغاظه. أنا رجل خاطئ، هذا، أمرًا لا أنكره، لا يغيظ. لكن، أن تنسب إليه خطاياي، ولا يغتاظ، فأمر جنّني! يا لهذا الحبّ العجيب! ووجدتُ نفسي، أمامه، في بيتي، أكلّمه واقفًا. فيسوع، ضيفي، جعلني أستردّ أنّني إنسان يُمكن أن يُصادق (لوقا 7: 34)، وأن يُحبّ. عيناه اللتاني رمقني بهما، منادته إيّاي باسمي، دعوته ذاته إليَّ، قبوله الإهانة عنّي، أمور، جديدةً عليَّ، كشفته لي. هذا، عالمًا بكلّ شيء، لا مثيل له! وقفت. أردتُ أن أعبّر عن إجلالي له، عمّا تحمّله من أجلي، عن اختياره، من بين كلّ بيوت أريحا، أن يبيتَ في بيتي، بيتي أنا الخاطئ! وأخذتُ أبوح بمكنونات قلبي. قلتُ له: "هاءنذا، يا ربّ، أعطي المساكين نصف أموالي. وإن كنتُ قد غبنتُ أحدًا في شيء، أردّ أربعة أضعاف". أمامه، لم أقدر على سوى أن أعرّي ذاتي، وأن أردّ الصداقة بالصادقة والحبّ بالحبّ. فاعترفتُ له، وعاهدتُهُ على أن أفعل ما اعتقدت أنّه يرضيه. فيسوع، في بيتي، لم يجعلني أرى نفسي على حقيقتها فقط، بل أن أراه على حقيقته أيضًا! يا لبلاغة رفقته وفصاحة رفقته! إن قلتُ إنّني رأيتُ، في وجهه، كلّ مساكين الأرض، لما بالغتُ في حرف. بدا، أمامي، أيقونةً رسمتها أنّات الأرض وأحزان الأرض ودموع الأرض! وأبيتُهُ فقيرًا! أبيتُ أن أكون قد غبنتُهُ في شيء! وأراحني أنّه قد ارتضى اعترافي وصداقتي وحبّي، بقوله لي: "اليوم، قد حصل الخلاص لهذا البيت، لأنّه، هو أيضًا، ابن إبراهيم. لأنّ ابن البشر إنّما أتى، ليطلب، ويخلّص ما قد هلك". لم أسأله: مَن هو هذا ابن البشر؟ عرفتُهُ. وفرحتُ بأنّ مَن يُحكى عنه أنّ "سلطانه لا يزول وملكه لا ينقضي" (دانيال 7: 14)، لم يفصلني عنه، بل محا عنّي زلاّتي، وقبلني ابنًا من جديد.

لم أكن أعرف، قَبْلَ استضافته، أنّني شيء يمكن أن يُذكر. كانت لي رغبة في أراه. وبلّغني، برغبته فيَّ، أنّني كلّ شيء عنده. يبقى أن يضيف التاريخ إلى قصص أريحا أنّ يسوع تاب على غير الموجود!

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content