الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

ردّ على مجهول

"طوبى لمن يعرف ضعفه"
(القدّيس إسحق السريانيّ)

 [/quote]

            لا أعرف مَن هو تحديدًا. لكنّي سمعتُ ما قاله.

            كنتُ، في سيّارتي، أصغي، عبر جهاز الراديو، إلى مقابلة تجريها إحدى الإذاعات المحلّيّة. فسمعتُهُ يقول لمستضيفته: "إنّ مَن يصلّي في وقت حاجة، ليس مسيحيًّا حقيقيًّا. الصلاة تعبير حبّ. وشتّان ما بين الحاجة والحبّ"! وهذا، وإن كان فهمه ممكنًا، يصعب عذره.

            "الصلاة تعبير حبّ"، ما من إنسان يعرف التراث المسيحيّ يشكّ في ذلك. المشكلة ليست هنا، بل في هذا الترفّع المقيت المنسوب إلى الله، وفي هذه الإدانة التي تضرب مَن حاول، مِن دون سابق خبرة أو عن حاجة ضاغطة، أن يفكّر في رفع شكواه إلى السامع المجيب. ولعمري، إنّ هذا الجوّ الغريب يشعرنا بأنّ الله بشر كسائر البشر. إله يحبّ الذين يحبّونه، ويمقت "الوصوليّين" (كما وصف المتكلّمُ الذين يصلّون في وقت حاجة!). إله، إذا قال: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم" (متّى 7: 7)، لا يقصد ما يقول! وإذا قال: "تعالوا إليَّ جميعًا أيّها المرهقون المثقلون" (متّى 11: 28)، إنّما يدعو صحبه، ويصدّ بابه في وجه سواهم! إله يفضّل الفرّيسيّ على العشّار (لوقا 18: 10- 14)! إله هرم يفرح بابنه الكبير الملتزم بيته، ولا يقدر على أن يركض، ليستقبل ابنه الضالّ (لوقا 15: 11- 31)! أي، باختصار، إله يهود يرفضون أن يتنصّروا!

            رجوتُ أن يقول المتكلّم: "مَن يصلّي في وقت حاجة فقط"، أي أن يزيد لفظة "فقط" على كلامه، ليصحّح نفسه، ويستقيم. لكنّه لم يقلها. رجوتُ أن يدعو المتعبين والرازحين تحت ثقل الخطايا بكلام طيّب. رجوتُ أن "يتعب فمه" بذكرِ أنّ الربّ واقف على أبوابنا يقرع، وينتظر أن نفتح له (رؤيا يوحنّا 3: 20). لكنّه لم يفعل. كان مصرًّا على موقفه. كان لا يرى سوى الأفواه المعمّرة بالحبّ. كان كما لو أنّه ينكر البداءة. يريد الكلّ ذوي خبرة، هكذا بسحر ساحر! وهذا غريب عن المسيحيّة التي هي دعوة إلى الناس جميعًا، مختبرين كانوا أو مبتدئين. أشعرني كلامه وتمنّعه بأنّه لم يقرأ قصّة مَن ترك التسعة والتسعين خروفًا، ليبحث عن واحدٍ شرد (متّى 18: 12 و13)! أشعرني بأنّه لم يقرأ قصّة القاضي الظالم (لوقا 18: 1- 8)! أشعرني بأنّه لم يقرأ شيئًا! بأنّه يعتقد أنّ الله كلّفه أن يقرّر عنه ماذا سيفعل، وعلى مَن يجب أن يردّ. بأنّه يستصعب أن تفرح السماء (لوقا 15: 17). بأنّه يتشدّق، ليقطع الدرب عن المحتاجين إلى الله. بأنّه يحاول قتله في صدور الحيارى والمتألّمين والقلقين والضعيفين. بأنّه يحسب أنّ الله، الذي ليس مثله أحد، يشبهه!

            أعرف أنّ خطر هذا الكلام أن يوحي بأنّني نصير كلّ علاقة انتهازيّة بين الإنسان وإلهه! إنّي، وإن كنت أتصوّر أنّ الكثيرين لا يصلّون، وأنّ الأكثر مَن يصلّون في وقت حاجة حصرًا، فمن الصعب أن أتصوّر أنّ الله كلّف أحدًا أن يقعد مكانه، ليقرّر ما يرضيه وما لا يرضيه! هذا أقوله، وثقتي الكاملة بأنّ قاعدة قبول صلاة "الملتزمين" و"غير الملتزمين" هي رجاء المصلّي، وفق قول المرنّم: "لأنّك أنت، يا ربّ، أسكنتني متوحّدا على الرجاء" (مزمور 4: 9). أليس من الغريب أن نمنع إنسانًا، ولا سيّما إن كان ضعيفًا، من أن يرجو؟ أليس من الغريب أن نصوّر أنّ الله سوف يهزأ بمَن يلتمس معونته في أوان ضيق؟ مَن هو هذا الإله المستهزئ؟! هل يمكن أن يكون أبا ربّنا يسوع الناصريّ المصلوب؟!

            ليس من ذكرى أحلى من الصليب نتأمّل فيها فيما نتكلّم على الصلاة. فمن جمالات إيماننا أنّ ربّنا صلب عن الناس جميعًا. وإذا تأمّلنا في منظره مصلوبًا، نراه فاتحًا يديه دائمًا. أليست صورة المصلوب كافية، لتفصح أنّ الربّ يطلبنا جميعًا، ويقبلنا في كلّ وقت؟ أليست صورته تكشف أنّه، خصوصًا، حبيب المتألّمين ونصيرهم الدائم؟ من الجرم أن نفسّر الصليب على أساس أخلاقنا البشريّة. من الجرم أن نصوّر المسيح إلهًا صعب المراس. لو قرأنا النصوص الإنجيليّة، لما شككنا، لحظةً، في أنّ صحب الربّ الأوائل هم الخطأة والمنبوذون في الأرض (لوقا 5: 27- 32)، والذين يأتون في الساعة الحادية عشرة (متّى 20: 1- 16). أليس ليبيّن ذلك، قال لنا، أجل لنا: "الحقّ أقول لكم: إنّ العشّارين والبغايا يتقدّمونكم إلى ملكوت الله" (متّى 21: 31)؟ ليس من أمر يخجل أكثر من أن نحدّد لله ما عليه أن يفعله، وما عليه ألاّ يفعله!

            ما من شكّ في أنّ الله يطلب أن نصلّي له لكوننا نحبّه. ولكن، مَن يقرّر إن كان اللجوء إلى الله، في وقت حاجة، ليس هو تعبيرًا عن حبّ؟ أليست الثقة (أو محاولة الثقة!)، المعبّر عنها بالطلب، بعضًا من حبّ، أو الحبّ كلّه؟ للأسف، ثمّة مسيحيّون لا يعرفون أنّ للحبّ بداءة. فتراهم يريدون الناس الآخرين أن يبدأوا علاقتهم بالله ممّا يتصوّرونه موقعهم هم. يريدونهم كبارًا منذ البدء! ليس معنى ذلك أنّ البدء خالٍ من حبّ وحبّ كبير. لكنّه، بدءًا، قابل لأن ينمو، ويعلو، ويعمق. لا يفهم بعضنا أنّ العلاقة بالله مسيرة. لا يفهمون أنّ أحدًا في الدنيا لا يمكنه أن يدّعي أنّه يحبّ الله، إن لم يقصد أنّه يحبّ ذاك الذي أحبّه أوّلاً، ويحبّه دائمًا. فمن محبّة الله، التي ليست لها حدود، نتكوّن، ونمشي. إذا كانت المحبّة بين الناس قائمةً على الاستحقاق (أي نحبّ مَن يستحقّ حبّنا) والتبادل (أي أن نردّ المحبّة بمثلها)، فهذا لا يليق بنا أن ننسبه إلى الله. فلقد كُتب: "لمّا كنّا ضعفاء، مات المسيح في الوقت المحدّد من أجل قوم كافرين" (رومية 5: 6). وكفى بمحبّته مثالاً.

            لا أعرف مَن هو. لكنّي أعرف أنّ كلّ خدمة المسيح نلغيها عندما نصوّره محابيًا للوجوه. فالمسيح ظهر، ليعرف الناس أنّهم محبوبون. وحسبُهم هذا الظهور، ليلتفتوا إليه، ويكونوا، ويبدأوا مسيرة حبّ كلّنا فيها مبتدئون.

شارك!
Exit mobile version