ماذا يمكنه أن يقول بعد؟ لقد قال بهروب الكلمات وعري الكلمات. كتب رغم قناعته بأنّ ما يكتبه لا يعبّر، كلّيًّا، عمّا خَبِرَهُ، عمّا سمعه ورآه. كان يمكنه أن يحتفظ بذكرياته. كان يمكن أن يبقيها في قلبه، ويشدّ عليها. ولكنّ ضرورة الشهادة لمحبّة الله هي التي جعلته يبوح بـ"ذكريات لا تُمحى".
عندما حمل قلمه ليكتب، لم يكنْ يقدر على جمع ما انهمر عليه. حمل، في غمره، ما قدر على حمله، ودوّنه على ورق. ولو أراد أن يصف حاله وصفًا دقيقًا، لقال إنّ ما انهمر عليه هو الذي دوّن ذاته من الألف إلى الياء، حرفًا بعد رفيقه. هناك، في التاريخ، مَنْ كتبوا عن معلّميهم. لم تكنْ كتابته كتابة في معلّمه. كانت كتابة في المعلّم. كان، إذا سمع أحدًا يقول عنه إنّه قد تتلمذ على شيخهم، يشعر بأنّ هذا القول يُنقص من قيمة المعلّم. وكان، كلّما سمع هذا القول، يعلن شعوره بصدق كلّيّ. فالشيخ، شيخهم، هو شيخ الجميع. إرادته الثابتة "أن يخلص جميع الناس، ويبلغوا إلى معرفة الحقّ". الأمر كلّه أنّ إقامته، في الدار، كانت فرصة. فرصة قبلها برضاه التامّ. هذا هو، تحديدًا، كلّ ما في الأمر.
إنّها ذكريات. والذكريات تعبر بالبال. وليس كلّ ما يعبر يبقى. إنّها ذكريات باقية. فأنت لا تقدر على أن تمحو ما يريدك الله أن تبقيه في قلبك ونفسك وفكرك، أي في كيانك كلّه. إن محوته، تمحو ذاتك. ليس من مستقبل بلا تاريخ. وليس من تاريخ لا يحكم رضاه مستقبلَكَ. قضيّة التاريخ ليست التأريخ حصرًا. فالتأريخ، علمًا، ربّما لا يتوافق عليه الجميع. فمنذ القديم، والتأريخ مبعث خلاف تلو خلاف. لكلٍّ قراءته! قضيّة التاريخ، تاريخك، تبدو في إخلاصِ حاضرٍ لا يمحوه دهر. سيستدعيك ربّك في يومه، ليسألك عن الحاضر. كلّ ماضيك حاضر. ما دام حاضرًا في عقل الله، فإنّما هو حاضر. والذكريات، في آخر معانيها، ما تختزنه من علم سمح لك الله بأن تعرفه، لتسلك بموجبه، لتسلك بالحقّ (3يوحنّا 4).
كان يعرف أنّ بعض الناس يخافون من المعرفة. وكان يجرحه هذا الخوف. لا يعلم إن كان منهم مَنْ يريدون الله أن يحاكمهم على ما بقوا عليه من معرفة. يمكن أن يكون اعتبارهم أنّ في جهلهم نجاتهم! هناك، في الدار، تعلّم أنّ الله، الذي أرسل كلمته لندرك الحياة الأبديّة، إنّما أرسل صورة الحكم علينا. يسوع، ربّنا، هو مخلّصنا. لقد خلّصنا من حكم إبليس وجهلِهِ وبُعْدِهِ وموتِهِ. وما من خلاص لنا إن لم نسلك كـ"أحياء قاموا من بين الأموات". المعرفة، أي معرفة الله، لا تُهمل. إن كنت تؤمن بخلاص المسيح حقًّا، فعليك أن تفتّش عمّن ينعش ذاكرتك بجمالات ليست من أرض. أرضك تعجّ بهم. فأنت لا تقدر على أن ترتبط بالسماء إن لم تصالح عقلك. عقلك جزء من كيانك الواحد. بلى، إنّ موقعه القلب. إذ ليست المعرفة، في الكنيسة، معرفة مجرّدة. المعرفة موقعها القلب حتّى يستقيم القلب بفهم أسرار الله، ويشتدّ، ويعمق، أي حتّى يصبح هو كنيسة الله أيضًا[1]. وهذا إنّما يعني أنّ غاية المعرفة الأخيرة أن تترك الترف الشاذّ الذي تعيش فيه، وتتوب إلى الله. المعرفة ليست هدفًا بحدّ ذاتها. لكنّ التوبة بلى. والتوبة، في جوهرها، استتابة. إنّها "درس العمر"[2]. هي ذكريات العمر التي درسها أن تتوب، أي أن تغدو، إذا أقامك الله كاهنًا له، "قربانًا كريمًا".
عندما سمع شيخهم، أوّل مرّة، يقول في رسامة كاهن: "عندما تموت، نغطّي وجهك بستر القرابين، إذ حسبنا أنّك صرت لله، آنذاك، قربانًا كريمًا"، أخذه فكره إلى ما تعلّمه على رفقته، وتثبّت منه في شرفة الدار. كان يعرف أنّ ثمّة تفسيرات عدّة تشرح معنى أن يستر الكاهن، في الخدمة الإلهيّة، القرابين بستر خاصّ. ومنها أنّ المسيح المتجسّد إنمّا هو باقٍ "في سرّ أُلوهته وعنايته". ولكنّ هذا المعنى المسقط على الكاهن (المعدّ للذبح) يحاكي المعاني الكريمة بكرامة معناه. فالكاهن هو، أيضًا، شهيد المسيح "الذبيح منذ إنشاء العالم" (رؤيا يوحنّا 13: 8). هل يريد شيخهم أن يذكّر المقام جديدًا، وجميع الذين يستمعون إليه، بأنّ أحدًا لا يستحقّ هذه الخدمة إن لم يُستشهد حبًّا؟ هل يريد أن يقول له إنّه، إذا قال في الخدمة الإلهيّة: "خذوا كلوا، هذا هو جسدي"، يجب أن يضمّنها استعداده أن يقدّم، هو أيضًا، جسده في خدمة شعب الله (قابل مع: يوحنّا 10: 11)، ورعاية "غنم مرعاه" (حزقيال 34: 31)؟ في الواقع، ما من خدمة كاملة لا تقوم على هذا الذكر. الذكريات هي أن تذكر، في كلّ لحظة من لحظات حياتك، أنّك أُقمت خادمًا لِمَنْ مات عنك. لا يمكن أن يقيم الخدمة سوى الشاهد. والشاهد والشهيد معنًى واحد. لا يمكن أن يقيم الخدمة سوى الذي يستره مسيح الله "بستر جناحيه" (مزمور 17: 8). ما مِنْ أحد مستحقًّا أن يخدم الربّ. الربّ، إن أعطيتَهُ قلبك، يخدم نفسه بنفسه فيك. فالستر، سترك، هو، في الأخير، أن تعي أنّك ترتدي المسيح. بلى، إنّك ارتديته في المعموديّة (غلاطية 3: 27). يبقى أن تعي أنّك معمّد أبدًا، وتسلك بموجب معموديّتك إلى النهاية. هذا هو معنى بقائك فيها.
يوم صعد إلى الدار، كان يعرف أنّ الخدمة موت. ولكنّ معرفته توطّدت بالمثَل. كان يحتاج إلى مَثَل. فإن سَرَبَ بعضُ الكلمات من الذاكرة، فالمثل لا يمكن أن يمحوه شيء. يبقى. وبقاؤه يعيد إلى ذاكرتك ما يمكن أن يسرب. أنت، دائمًا، تأتي من الوجه. هذا أمر تكراره مفيد. المثل هو الوجه. والوجه هو المثل (1كورنثوس 11: 1).
ستحمل ذكرياتك، إذًا. ستحملها في قلبك، وتحاول، بكلّ ما أوتيت من قوّة، أن تشبهها. فما لا يُمحى هو أن تسعى إلى أن تكون أنت نفسك ذكرياتك التي لا تُمحى.
[1] كتاب المراقي، عرّبه عن السريانيّة الخوري فرنسيس البيسري، منشورات المكتبة البولسيّة، 1989، صفحة 138.
[2] غروب عيد القدّيس البارّ إفرام السريانيّ.