23ديسمبر

ذكرى

"لا يوجد فيَّ غير ماء حيّ"
(إغناطيوس الأنطاكيّ)

يحبّك. ويحبّك أن تتكلّم بعيدًا من مدح لحم ودم. ولكنّه يعرف، تمام المعرفة، أنّه لا يُحرج تراثنا أن ندلّ على إنعامات روح الله، سرًّا أو علنًا، ولا سيّما في ماء عيوننا. وإذًا، نبكي. نبكي ذلك البكاء الذي قيل فيه إنّ له غنى المعموديّة. فَمَنْ ذكَّرك بعينَيْك، يهديك ما ربّما لم تعِ أنّك قد أُهْديتَهُ في طفولتك. وهل من شأن يفوق أن تذكر أنّك، معمَّدًا، تخصّ الله الذي يحبّك؟ هل من شأن يعلو صحوة البنوّة؟

إذا جاز لي أن أجترئ على أن أقدّم وصفًا في قامةٍ جَمالُها لا يُختصر، فأرى نفسي تستعجلني إلى أن أمدّ يدي إلى جَعْبَتي المثقوبة، وأُخرج منها أنّه مذكِّر شعب الله، في تاريخنا الحديث، بأنّهم معمَّدون. وهذا، إن بقي في القلب يفور، أعلى ذكر في الكون. فالمسيحيّة قامت على ما قيل، في مطلعها، ردًّا على مَنْ جهلوا حقّ المعموديّة، أي: "نحن السمكات الصغيرة، الذين أخذْنا اسمَنا من يسوع المسيح، نولد في الماء، ولا نخلص إلاّ إذا بقينا فيها". وكيف لنا أن نبقى فيها ما دمنا قد أُخرجنا منها؟ نبقى إن بقينا في ذاكرة حيّة، أو إن استرجعناها. وعلى هذا الباقي حقُّهُ أبدًا، يكون مَنْ ذكَّرك بمعموديّتك قد أرادك في الموقع الوحيد الذي لا يليق بك، قائمًا فيه أو تائبًا إليه، أن تهجره. هذا، في لغتنا الكنسيّة، معناه أنّه جعل لك، "الآن وهنا"، السماء موطنًا. فالمعموديّة، حدثًا، وإن تمّت في الأرض، ترفع مَنْ بقي فيها إلى سماء الله، أي تجعله، مُخلصًا، كلّ شيء.

هذا، توًّا، يدلّ على أنّ للمعموديّة مقتضياتها الواجبة. فأن تذكر أنّك معمَّد، أمر لا يحدّه أن تستعيد، في ذهنك، أنّك غُطِّستَ، طفلاً، في جرن ممتلئ ماءً، (هذا ظاهر الأمر)، بل يفترض، حكمًا، أنّك إلى الله والإخوة في كلّ حين. وإن قلت إلى الله والإخوة، فأعني إليه كلمةً وقرابين ووجوهًا، أي ألتزم قول تراثنا الذي سنّ أن ليس من فرق بين جسد المسيح وَمَنْ أُعطينا أن نعبد الله معهم "كتفًا على كتف". فمدى المعموديّة أن تغدو، لله أبدًا، فاعلاً في جماعة الإخوة. لست محلّل تاريخ. لكن، لا شيء يمنعني من أن أعتبر أنّ ما أقوله يتضمّن أنّ الجماعة الكنسيّة، حينئذٍ، كانت معظمها قد فقدت ذاكرتها، أو قلْ تلطيفًا: كانت قد نسيت ينابيع الجِدّة. هناك، في ظلام النسيان، انتصب فتًى يافعٌ، وقال بثقةٍ تُذَكِّرُ بأنبياء الله العجيبين: "عندي لكم خبر جديد. لقد أرسلني روح الله إليكم، لتذكروا جميعُكم أنّكم له". وعلى التزامي أنّني لست ما قلت إنّني لست إيّاه، يمكنني أن أخمّن أنّ أحدًا لم يشكّ في ما سمعه. وحسبي أنّ أحدًا لم يسأله مثلاً: "كيف تقول إنّ هذا الخبر جديد؟". قَبِلوه، أو قَبِلَ التذكير مَنْ أُنعم عليه بأن يقبله. ومن دون أن أبدو متسرّعًا في الوصف أو أسلخ عن بشرٍ خيرَهم، هذا يسمّرني على اعتقاد أنّ كلّ مَنْ قَبِلوه إنّما قَبِلوه لكون النعمة عينها دلّتهم على أن يروه متوشحًا بثياب المذكِّر. لو رؤيَ، مثلاً، حاملاً عصًا أو سيفًا، فالله أعلم ما الذي كان قد جرى. رؤيَ يحمل "رسالةً جديدةً" بوداعة العارف أنّ ديّان العالمين لا يُختلس موقعه. كيف لفتًى أن يبقى تحت ما كُلِّفَ أن يبلّغه من دون أن يتعالى على أحد أو يزدري أحدًا؟ أيضًا، بعيدًا من أن أعتبر هنا أنّني فاحص قلوب وكلًى، يمكنني أن أعتقد أنّه يستحيل أن يذكِّرك أحد بأنّك ابنٌ إن لم يُكشَف له أنّك أخوه. لن أقول إنّه رأى أوجاع أترابه ووجوههم الهزيلة وأيديهم المتّسخة، فعزّ عليه حالهم، وانتفض مذكِّرًا. فصحّة القوم ثمرة الكشف. ثمّ صار يأتي الكشف من غير جهة. وارتصف أهل الكشف زرافات زرافات أوّلاً. ثمّ حرّكوا مدننا وقرانا وشوارع وأزقّةً كانت منسيّة. وصاروا، كثرًا، يذكرون ويذكِّرون، ويشدّون ذواتهم وَمَنْ معهم وإليهم إلى فوق، أي إلى مقتضيات المعموديّة عينها.

ليس هذا كلّ ما يتحرّك في جَعْبَتي. بقيت أشياء كبيرة تنتظر مَنْ يخرجها. وسأُخرج منها شيئًا واحدًا يتعلّق بما حدث. سأُخرج أنّ مَنْ ذكَّر بني جلدته بجدّة المعموديّة غدا، بثباته، هو الحدث. ماذا يعني أن تكون ثابتًا في الحقّ؟ جوابي عن هذا السؤال أبيّنه بسؤال آخر: وماذا تعني معموديّتك إن لم تكن ثابتًا، أي، أكرِّر نقلاً، إن لم "تبقَ فيها"؟ وثبت. عاد هو الذاكرة. وبتَّ أنت، كلّما نسكتَ داره، تراه على بياض ساطع يَبْهَرُ العينَيْن. ومتى سمعتَهُ يتكلّم، يتحرّك رمادُ قلبك يبحث عن بصيصِ نارٍ حفظه لك روح الله كُرمى لهذه الساعة. وإن رأيتَهُ يتصرّف، تَقْفِزُ عليك أقوالٌ من نور، كنتَ تَحْبِسُها في خزائن الماضي، وتعرّيك من جهلك أنّها ممكنة ممكنة. مرآة قلوب غدا. مرآة قريبة قريبة. وهل مثلُ المرآة القريبة فضّاحة عيوب؟ هل مثلها تكشف لك الشيب الذي غزا رأسك والتجاعيد التي ترسم خيوطها حول عينَيْك وفي خدَّيْك وعلى جبهتك؟ أي هل مثلها تبيّن لك كم ابتعدت عن طفولتك، عن براءة معموديّتك؟ لا تخدعُ المرآة. وعلى هذا، ترى ذاتك مندفعًا إلى أن تلتزم "المرآة" قربى أو التماسًا لقربى. فللثابتين أن يجعلوك ترى نفسك على حقيقتها. ولكن، لا ليتركوك تفترش وهد هاوية وحدك. يحتضنونك. كما تحتضن الأمّ رضيعها، يحتضنونك. وإن اضطرّوا إلى أن يفترشوا هاويتك معك، يحتضنونك. فأنت ابن، أخ، ولا ينبغي لك أن تموت. يجب أن تحيا، أن تتجدّد، أن تتحرّر من كلّ ما يكبّلك، أي ينبغي لك أن تفكّ "يدَيْك عن خصرَيْك"، و"تجمّل رجلَيْك بنعلَيْن"، وتطفر إلى مرتفعات الله. ولربّما خير ما يجعلك تحار، في اندفاعك إلى القربى، أنّه يصرّ، دائمًا، على أن تكون فوق. أنت تعرف أنّك في أقصى قعر الأسى. وأمّا فهو، فيسحق ما تعرفه بوداعة مَنْ يريدك فوق. أين العالم من هذا الإنعام؟ ترى معظم الناس يطأون سواهم، ليعلوا علوًا لا يعير أنّ ثمّة إلهًا فوق الجميع. وترى عاليًا ينزل إلى أقدام الناس، ليرفعهم إلى أعالي الحقّ. ينزل من دون خجل. ينزل من دون أن يحابي. ينزل باستمرار. يبدو أنّ الكبار، وحدهم، هم مَنْ يقتنعون بما فعله "راعي نفوسهم وأسقفها"، فيحذون حذوه. لقد نزل الربّ إلى أقدام تلاميذه. وهناك، في ذلك الامّحاء الكلّيّ، سمعوه يقول لهم أن يقتدوا به. قال لهم حرفيًّا: "لقد جعلتُ لكم من نفسي قدوةً، لتصنعوا أنتم ما صنعتُ إليكم". لماذا أمر ربّنا بهذا النزول؟ حسبي ليعرف كلّ إنسان أنّ المرقاة إلى السماء باتت تبدأ من هنا، من عند أقدام الإخوة، أو قلْ: إنّ السماء باتت، كلّها كلّها، حبًّا، تواضعًا، بذلاً موصولاً، لئلاّ يبقى أحد لصيق وسخ الأرض. كلّ أخ يجب أن يرتفع. وهذا، الذي يطلبه مَنْ "بلغ به الحبّ إلى أقصى حدوده"، إن سعيتَ إلى أن تُحاكيه، فسيهبك أن تعرف، في كلّ نزول لك، أنّه هو نفسه يمدّ يدَيْه تحت إبطَيْك، ليرفعك وإخوتك إلى عَوالٍ لا تنتهي.

ماذا بعد؟
أمام ما حدث وما هاجمك كلّك، ماذا يبقى لك بعد؟

يبقى أن تسأل نفسك: ماذا ينبغي لك أن تفعل؟ وثقتي بأنْ ليس لك، معتادًا هذا السؤال، من جواب عنه سوى أمر من اثنين: إمّا أن تهرب، وإمّا أن تبكي. أنت فكّرت، مرًّا ومرَّيْن ومئةً، وربّما في كلّ مرّة كنت تلتقي به فيها، فكّرت في أن تهرب. وكنت، في كلّ مرّة، تتراجع. ماذا كنت تفعل؟ تعتزل، وتبكي؟ إن كان هذا ما كنتَ تفعله، فلا تغيّره. يبدو أنّ عينَيْك ما زالتا تحتاجان إلى بكاء. فابكِ، لربّما تتنقّى، وتعتبر.
هذه كلمات عرجاء حاولت أن تشير إلى بعض إنعامات سويّة. يبقى مَنْ نالها، معروفًا في الأرض والسماء، مرّ على حدث رسامته أسقفًا على جبل لبنان أربعون سنة. لن نطلب له طول العمر بشفاهنا فحسب، بل، أيضًا، بعيوننا التي، بتذكيره إيّانا بها، بات يملكها. نستعيرها منه الآن، ونرفعها إلى وجه مَنْ تطيب له الجابة أن يُبقيه أبًا وراعيًا، صحيح النفس والجسد، من أجله ومن أجلنا.

- مجلّة النّور، العدد الثامن، ٢٠١٠
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content