4مارس

دعوةُ تَحَرُّر!

شخص، لا أعرفه عن قرب، طلب رقم منزلي من صديق لنا مشترك، واتّصل بي. عرّفني بنفسه، ثمّ قال لي ما حرفيّته: "إن كنت تسمح، أودّ أن أسألك عن مطرانَيْ حلب بولس (يازجي) ويوحنّا (إبراهيم): هل صحيح أنّكم، في الكنيسة، أساقفةً وكهنة، لا تعرفون أيّ شيء عن مصيرهما؟".

لست من المطّلعين على دقائق الأمور في الأرض. لكنّني أعتقد أنّ ما يعلنه المسؤولون في جماعتي صدقٌ كلُّهُ. ثمّة مطرانان ما زال مصيرهما مجهولاً. هذا، أيّ كلام عليهما آخر هو الذي تعوزه الدقّة.

بلى، سمعنا مقارباتٍ عديدةً تفصّل ما جرى للسيّدين المطرانين بعد خطفهما. و"لا نعرف عنهما أيّ شيء" هي إحدى هذه المقاربات. لكنّ هذه المقاربة هي الوحيدة التي تخلو من أيّ تحليل. خبرُنا عنهما أن لا خبرَ لنا عنهما. عندما أُعلنَ في وسائل الإعلام، بعد خبر خطفهما بنحو يومين، أنّه قد "أُفرج عنهما"، توًّا اتّصلتُ بأحد الإخوة الذين يُتّكل على علمهم، وسألته عن صحّة هذا الإعلان. أجابني: "ما أعلمه أنّ الدار البطريركيّة لم تُبلَّغ الخبر رسميًّا". لم يَعُزْني أن أسأله عن معنى ما سمعته منه. فما قاله، واضحٌ معناه. معناه أنْ ما من خبر! وبيّنت الأيّام أنّ هذا، إلى اليوم، أصدق إعلان سُمع عنهما!

معظمنا تابعنا مواقف المسؤولين في كنيستنا وفي سواها، وفي بلدنا وفي سواه. هذا الصمت، الذي يلفّ مصير المطرانين، يُحيّر، بل يجرح القاصي والداني. إلى متى سنبقى، نحن أهل المخطوفين المجروحين، لا نعرف أيّ شيء عنهما (عنهما وعن أيّ مخطوف آخر يجرح إخفاؤه أَترابًا له)؟ ما هدف هذا الصمت المطبق؟ في أيّ كتاب يُعلَّم؟ أليس مَن يعلم؟ ومَن هم أولئك الذين يعلمون؟ مَن هم أهلهم؟ لِمَ، تراهم، يصرّون على صمتهم الجارح؟ طال زمان صمتهم علينا، أليس زماننا وزمانهم واحدًا؟ أما من "جرأة" في الحروب؟ أين جرأتهم؟ لِمَ يفتقدون جرأة الإعلان عن مصير المطرانين؟ هل حربُهم أخرى؟!

قال غبطة البطريرك الأنطاكيّ يوحنّا العاشر، في دير البلمند، في عشيّة عيد العنصرة: "حياة المطرانين هي علامة بذل مستمرّة بيننا... لقد كسر صمتهما المطلق جدار السماوات، واستمطرت صلاتهما بركاتٍ كثيرةً علينا". وبعد أن سجّل استغرابه(نا) من عجز الدول والأجهزة الأمنيّة في شأن إعطاء الخبر اليقين عنهما، أردف: "نحن مؤمنون بأنّ مصيرهما، أوّلاً وأخيرًا، هو في يد الله سبحانه وتعالى. ولكنّ هذا لا يعفي أيّ أحد من مسؤوليّة العمل للوصول إلى الحقيقة وإطلاقهما بأسرع وقت ممكن".

هذا الموقف، الذي يختصر كلّ موقف أُطلق، لا أعتقد أنّه لم يصل إلى مَن يرتكبون، اليوم، جرائم الخطف، لا سيّما في مدن سورية وقراها. الإنسان، أيّ إنسان، مصيره في يد الله. أرادنا غبطته، في كلمته، أن ننتبه إلى أنّ هذا لا يعفي أحدًا من مسؤوليّته. كلٌّ منّا مسؤول عن العمل للوصول إلى الحقيقة التي حدّدها بقوله: "وإطلاقهما بأسرع وقت ممكن". كلٌّ منّا، أي ليس الذين يعلمون بأمر المخطوفين ويقبعون في الصمت فقط، بل كلُّ واحدٍ منّا أيضًا. إن كان "مصيرهما في يد الله"، فعلينا أن نبيّن ثقةً مطلقةً بأنّ الله قادر على أن يُعيننا على أن نصل إلى الحقيقة التي قالها غبطته عنه وعنّا. وكيف نبيّن هذه الثقة؟ أوّلاً بأن ندمج صلاتنا في صلاة المطرانين، صلاتهما القادرة على كسر جدار السماوات واستمطار البركات.

هذا يلزمنا جماعاتٍ وأفرادًا، أن نُدخل ضمن صلواتنا اليوميّة صلاةً خاصّة، نتلوها صباح مساء، من أجل إطلاقهما الآن. الكنيسة الحيّة أعضاؤها يتعاضدون في كلّ شيء. يفرحون معًا، ويبكون معًا. لا يكفينا، أعضاء في كنيسة الله، أن نعلم بما يُصيب سوانا، بل أن نرى إلى أنّ مُصابهم مُصابنا. علينا أن نقف أمام الربّ وقفةً واثقة، ونصلّي بإلحاح كما لو أن نقول له: "يا ربّ، يا إلهنا الحيّ العالم بكلّ شيء والناظر إلى كلّ إنسان في أيّ مكان نزل فيه أو أُنزل، نطلب إليك، نحن عبيدك الخطأة، أن تنظر، بعيني رأفتك، إلى جميع المخطوفين في الأرض، ولا سيّما منهم خادميك المطران بولس والمطران يوحنّا. لا تسمح بأن يصيب أيًّا منهم أيُّ مكروه. أنت قلت، يا ربّنا، "إن اتّفق اثنان أو ثلاثة باسمك، تكون معهم". كن معنا في هذا الدعاء إليك. يا يسوع، يا ربّ الحرّيّة، حرّرهم الساعةَ. إنّ الذين يخطفون الناس، جهلاً أو عمدًا، ويصرّون على إخفائهم، جهلاً أو عمدًا، هم أنفسهم، علموا أو لم يعلموا، يحتاجون، مثلنا جميعًا، إلى كلّ إنسان حرًّا. لا تترك الشرّ يغلب الخير. اغلُب بخيرك كلّ شرّ طارئ أو مستحكم، لتفرح السماء، ونتعزّى في الأرض، وتتحقّق فيهم بشارة إنجيلك الحيّ الذي قلت فيه إنّك أتيت، لـ"تطلق الأسرى إلى الحرّيّة"، آمين".

أمّا إلى الصلاة الواثقة، فدعوة صاحب الغبطة تلقى ذاتها في كلّ لون من ألوان العمل السلميّ أيضًا. كيـف يسعى كلٌّ منـّا، في أيّ موقع كان، ولا سيّمـا إن كان له نفوذه في الأرض، إلى وضع نفسه وجهوده في هذه الخدمة الأخويّة (أو البنويّة)؟ هذا يطلبه الوعي أنّ المخطوفين ليسا، فقط، عضوين لهما مكانتهما العالية في كنيسة الله، بل يمثّلان الكنيسة كلّها، بل خطفُهما يبدينا أنّنا بأجمعنا مخطوفون!

حزننا على العالم أنّ فيه مَن يُخفي طلاوة الخير. إن كان الخير لا يعنيك، فللخير أهله. لا تتاجر بعواطف الناس الذين يحبّون "سلام كلّ العالم". لا تضغط على أشواقهم وأحلامهم. لا تُخفِ الوجوه التي لها مَن يتوق إلى ضمّها. هذا خطأ، بل خطيئة. والخطيئة لا تُبرّر. يمكنك أن تتراجع عنها، الآن. كُن حُرًّا!

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content