في طفولتنا، كان عموم الناس يستقبحون أن يدخل أيُّ إنسانٍ مُخدعَ متزوّجين. اليوم، بات كلّ شيء مباحًا، مباحًا وموافقًا! فإن ذهبت إلى منزل شخصين تزوّجا حديثا، لتهنّئهما مثلاً، فمن العيب، إن دعاك أحدهما إلى أن تجول في منزله الجديد، أن تعتذر! عليك أن تدخل، وتبدي فرحًا بكلّ ما تراه. إيّاك أن تبعد ناظرك عن أيّ، أيّ، أجل أيّ شيء. حتّى الصور، التي تظهرهما في مشهد حميميّ، موضوعة لعيون العموم. إيّاك أن تُصدم. إيّاك أن تظهر أنّك صُدمت! إنّ في هذا لَتَخَلُّفًا! عليك أن تقتنع بأنّ ما تفعله إنّما هو من مقتضيات الحضارة. افرح، فأنت حضاريّ!
لم أكن أعرف، قَبْلَ أن أقرأ بعض ما ثبّته أدبنا الكنسيّ، أيّ شيء عن معنى هذا الاستقباح. كنتُ في غربة كلّيّة عنه. كنتُ رهن "العيب" الذي يصف به مجتمعنا هذا التدخّل المقيت! وكان هذا كافيًا في حينه. بعد أن قرأت، أخذت أعرف. فللحياة الزوجيّة خصوصيّتها. وأنت ممنوع عليك أن تدخلها البتّة، ولو بالفكر. أنت، في أيّ زيارة تقيمها، ضيف في منزل إخوة تحبّهم. ولا يليق بك أن تقتحم الحدود التي تفترضها محبّتك لهم، وتاليًا عفّتك. أنت هنا، لتقابل الوجوه. وهي، بكلّيّتها، موجودة في قاعة الاستقبال. وهذه، أي الوجوه، هي موقعك الوحيد الذي عليك أن تلتزم حدوده!
بهذا المعنى، يعلّم أدبُنا احترامَ خصوصيّة الحياة الزوجيّة، وتاليًا حمايةَ الذات من كلّ تفكير مؤذٍ. يقيم الكلَّ في جماعة الإخوة الذين عملهم الثابت أن يحبّوا بعضهم بعضًا، ويرجوا من الله أن ينعم، دائمًا، بقداسته على الكلّ. لم أشعر، في طفولتي، بأنّ الناس يستقبحون ما يستقبحونه لكونهم منغلقين! ولم أجد، في ما قرأته، إن أقيم الزواج وفق الأصول، أيَّ تحقير له. على عكس ذلك، قرأتُ أحكامًا أطلقها محبّو الحقّ على كلّ من يسيء إلى الزواج بلفظة غريبة أو رأي منحرف. فالزواج، بتفصيله وتفاصيله، في تعليم كنيستنا، سبيل من سبل تحقيق القداسة التي هي أن تؤمن بسيادة الله، وتحبّه، وتُخلص لكلمته وآثارها الظاهرة في برّ التاريخ. إنّه حياة تعاش بوعي أنّ الله حاضر في كلّ بيت، وأنّه هو مَنْ يقود مَنْ فيه إلى نفسه. ويكفي تبيانًا لذلك إيراد بعض ما قاله الآباء في مجمع غنغرة المكانيّ. نقرأ: "إنّ كلّ من يطعن في الزواج، ويحتقر المرأة التقيّة المؤمنة، ويذمّها لأنّها تنام مع زوجها، ويزعم أنّها لا تستطيع أن تدخل الملكوت، فليكن مبسلاً" (القانون 1). و"إنّ كلّ من يبقى عازبًا حافظًا العفّة وممتنعًا عن الزواج لأنّه يكرهه ويزدريه، وليس لما في البتوليّة من جمال وقداسة، فليكن مبسلاً" (القانون 9). و"أيّ شخص من حافظي البتوليّة لأجل الربّ ينظر إلى المتزوّجين بعين الاحتقار والكبرياء، فليكن مبسلاً" (القانون 10). و"إذا تركت امرأةٌ زوجَها وصمّمت على أن تبرح سكنه لأنّها تكره الزواج وتحتقره، فلتكن مبسلة" (القانون 14).
هذه القوانين، التي تستند إلى كتب العهد الجديد (أنظر مثلاً: 1تيموثاوس 4: 3)، تبيّن قيمة الزواج في الفكر الكنسيّ. ويمكننا أن نلاحظ، بأخذنا بعض عبارات هذه الاقتباسات، أنّ واضعيها لم يحصروا القداسة بنهج واحد. لم يكن همّهم أن يغيّروا أنّ القداسة يمكن أن تعاش في غير أسلوب. أسلوبهم أن يوصوا بالقداسة، ويثبّتوا نهجها فحسب. ويمكننا أن نلاحظ، أيضًا، أنّ هذه القوانين تدين المتكلّمين خطأ في أمر الزواج كما يفعل غيرها مع المتكلّمين خطأ في أمر العقيدة. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ الربّ، الحاضر في كلمته الممدودة، "يهينه" أيّ قول مخالف. ويمكننا أن نلاحظ، أيضًا وأيضًا، الجدّيّة التي ينظر فيها آباؤنا إلى الحياة الزوجيّة، وأن يلاحظ عفّتهم في تقديم التعليم القويم.
فآباؤنا، مثلاً، لم يبحثوا في تفاصيل الحياة الزوجيّة. بحثوا في الموضوع بشكل عامّ. فمن الحشمة ألاّ تتكلّم في ما لا يعنيك. وإذا أخذنا في الاعتبار أنّ مجمع غنغرة عُقد في القرن الرابع (325- 381)، يمكننا أن نجزم أنّ بعض آبائه الأساقفة كانوا، في ذلك الحين، متزوّجين. فحصرُ الأسقفيّة بالعازبين ثبّته مجمع ترولّو المنعقد في العام 692 (أنظر قانونه الـ12). وهذا معناه أنّ الحشمة تخصّ الجميع متزوّجين وعازبين.
لا أخرج عن عنوان هذه السطور إن ذكرت أنّ ثمّة قوانين كثيرة تدين الفسق والزنى والجنس المثليّ وغيرها. ولا نجد، في عرض هذه القوانين، تمييزًا بين شخص وآخر. الكلّ، مهما كان موقعه، دعوته أن يحافظ على عفّته التي هي من نقاء المعموديّة التي تمنعه من أن يستبيح نفسه بإقامة علاقة غريبة أو مشوَّهة، أيْ أن يسيء إلى خصوصيّة "مخدعه". المسيحيّة مذهب إخلاص لمن أحبّنا حتّى الدم. جوّها وجوهرها يأبى، إلى جانب كلّ تصرّف غريب، كلّ قول منحرف، كلّ فكر بذيء.
قَبْلَ أن أدفع هذه السطور إلى عيون قارئيها، يعنيني أن أذكر أنّه، في مطلع التزامي، قال لي أحد الإخوة المعتبرين: "قَبْلَ أن تريد الخير لأحد، عليك أن تحبّه". لفتني هذا القول كثيرًا. ومع مرور الوقت، صار يقيني أنّ المحبّة هي الخير الكامل. فمن يحبّ، يمكنه أن "يفعل ما يشاء". من يحبّ، يقدر على أن ينضبط حتّى بالفكر. وربّما هذا القول ينفعنا، هنا، في كلامنا على خصوصيّة الحياة الزوجيّة. فأنت إن أحببت الناس حقًّا، يمكنك أن تزورهم، وتراهم بعيني مَنْ أحبّك أوّلاً. إن أحببتهم، تساعدهم على أن يذكروا الله في سرّهم، وأن يحبّوه في مخدعهم. إن أحببتهم، تبقى طفلاً، وإن تعلّمت، لا تهجر البراءة.