من الصفات، التي يطلقها الإنجيليّون على الربّ، حنانُهُ. فنراهم، في غير مناسبة، يصوّرون أنّه ينعطف، بحنانه، على الناس. يحنّ على المتعَبين الرازحين "كغنم لا راعي لها" (متّى 9: 36؛ مرقس 6: 34)، وعلى المفتقرين إلى الخبز (مرقس 8: 2)، وعلى الذين نشرت العلل أجنحتها عليهم (متّى 14: 14): على أعميَيْ أريحا (متّى 20: 34)، والأبرص (مرقس 1: 41)، وأرملة نايين التي أحيا ابنها (لوقا 7: 13). ونرى الربّ يرضخ لطلب مَنْ يسأله أن يحنّ عليهم، كما فعل أبو الصبيّ المصابِ بداء الصرع (مرقس 9: 22). ويذكر حنان الله في بعض أمثاله: مثل "الخادم القليل الشفقة" (متّى 18: 27)، ومثل "السامريّ الشفوق" (لوقا 10: 33)، ومثل "الابن الشاطر" (لوقا 15: 20). إذا تركنا معاني الحنان الظاهر في أمثال يسوع، نقف على سببين يبيّنان حنان الربّ: الأوّل وضع الناس المفتقرين إلى معرفة الكلمة (أو إلى الخبز)، والثاني وضع المرضى (أو الحزانى). وللسببين، في المسرى الإنجيليّ، هدف واحد. فالربّ يعنيه أن يعود الناس إلى الله أبيه، أي أن يتبيّنوا أنّه يحبّهم حبًّا خالصًا، فيُعطي هذا كلمةً وذاك شفاءً أو عزاءً. وقارئو الكتب لا يفوتهم أنّ الربّ إنّما يشفينا بكلمته. وهذا نقرأه، على سبيل المثال، في كتاب المزامير: "أرسَلَ كلمتَهُ فشفاهم / ومن الهوّة أنقَذَ حياتَهم" (107: 20). ونلقاه على لسان قائد المائة الذي جاء إلى يسوع يطلب شفاء خادمه، إذ قال له: "يا ربّ، لستُ أهلاً لأن تدخل تحت سقفي، لكن يكفيني أن تقول كلمةً، فيبرأ خادمي" (متّى 8: 8).
هذا الهدف المذكور لا يسمح لنا بأنّ نعتقد أنّ حنان الربّ وليد لحظة، أو مناسبة. إنّه صفة تلازمه، ويظهرها هذا الوضع أو ذاك. فإذا بيّنت الكتب أنّه قد حنّ على وضعٍ من الأوضاع التي تشقينا نحن البشر، فهذا يعني أنّه دائم الحنان. يتحرّك إلى العالم بدافع أنّنا نخصّه.
يُظهر حنانَ يسوع جوعُ العالم وأمراضُه. وإنّما يظهره هذا وتلك، ليؤكّد لنا حضوره المحيي، وتاليًا ليدعونا إلى أن نأخذ بإخذه. فالمسيحيّة اقتداء بالسيّد. في العالم، ثمّة جياع كثيرون إلى الكلمة والخبز، وثمّة مرضى وحزانى كثيرون. وفيما نظنّ أنّ الربّ كفيل بهم، يجب أن نعتقد أنّه أرادنا أن نشارك في حنانه. أرادنا أن تكون عواطفنا إلهيّة. فَمَنْ كانت عواطفه عواطف إله، لا ينخرط في العالم انخراطًا سلبيًّا. بمعنى أنّه يتعهّد المحتاجين إيمانًا منه بأنّ الله يريده أن يفعل. معظمنا يعتقد أنّ الله لا يترك أحدًا. وهذا صحيح كلّيًّا. ويريدنا الله أن نعتقد أنّ لنا كلِّنا دورًا في العضد. ثمّة "فِرق مسيحيّة" تحسب أنّ الله يدعو أعضاءها إلى أن يساهموا ماليًّا في حياة جماعاتهم (نظام التعشير مثلاً)، ليعضدوا الفقراء والمحتاجين. وهذا، نحن لا نكتفي به. نحن نحسب أنّ الله يدعو إلى المساهمة في الكنيسة، وأنّه، تاليًا، يريد أن يكون كلُّ مسيحيّ صورتَهُ في العالم. ليس الأهمّ، عندنا، أن تكون كنائسنا غنيّةً ماليًّا، وكفى. الأهمّ أن نكون نحن، أي أن يكون كلّ واحد منّا غنيًّا بانعطافه على أوجاع الناس، ولا سيّما مَنْ كان ليلهم بهيمًا. الأهمّ أن نشرق، بنور الله، على كلّ بقعة يسودها الموت. الأهمّ أن نظهر، في تصرّفاتنا، أنّنا نأتي من إيماننا بقيامة الربّ، أي بأنّه منحنا كلّ شيء. المسيحيّون قوم فصحيّون بمعنى أنّهم يعتقدون أنّ ربّهم أخرج موتى التاريخ من قبورهم، ويحاولون أن لا يموت أحد بفقر أو بجهل أو بجوع أو بمرض أو بحزن. حنان المسيحيّ إلهيّ بمعنى أنّه فصحيّ. ليس من علامة واقعيّة عن أنّ حياة الله ممدودة في التاريخ كما حياة مسيحيّ يؤمن بأنّ المسيح أقامه من موته، ليساهم في حياة العالم.
الربّ حنون، هذا نختبر معانيه حقًّا إن سلكنا نحن بهداه "من أجل خلاص العالم".