22ديسمبر

جدل يستجدي توضيحًا

ثمّة جدل، اليوم، في صفوف الشباب النهضويّ، عن العمر الذي يُقبل فيه "المريد" (طالب الرهبنة) في الدير. وهذا الجدل هو، في الواقع، جدل قديم جديد. فإنّنا نعرف، من الأدب الرهبانيّ القديم، أنّ ثمّة شيوخًا كبارًا تردّدوا في أن ينضمّ إلى أديرتهم شباب يفعة، ثمّ قبلوا بعضهم، بعد اختبارات شاقّة، إذ رأوا أنّ صغرهم لا يعيقهم في مسعاهم، وأنّهم كبار في عمق قلوبهم. ولا يعوزنا أن نؤكّد أنّ هذه الاختبارات القائمة على المراقبة الحثيثة وبعض المطالب الصعبة أحيانًا، إن هي سوى تأكيد صارخ أنّ هؤلاء الشيوخ قد أدركوا، بحكمتهم الوطيدة، أنّ هذا الخيار إنّما هو خيار أخير، أي لا يقبل "نظرًا إلى الوراء" (لوقا 9: 62).

لنعترف، بدءًا، بأنّ المسيحيّة، في جوهرها، تأبى سنًّا تحدّد فيها رشد أعضائها. فقد تجد، مثلاً، فتًى هنا أكثر رشدًا من شيوخ كثيرين هناك. والكنيسة، في سير قدّيسيها، دعتنا إلى التمثّل بأطفال أعلنت قداستهم. وهذا يبيّن أنّ القداسة، التي هي تجاوبٌ مع قداسة الله وقبولُها نهجَ حياة، هي الرشد عينه. ويعنينا، فيما أتينا على ذكر السيرة، أن نشير إلى أنّ سير القدّيسين لها معانيها التي تتجاوز، في مواضع كثيرة، قالبها الخارجيّ. كلّ كلام يُكتب يَخضع، بالضرورة، لمعايير كلّ أدب، أي للظروف التاريخيّة والقصد التعليميّ وما إليهما. فلا يمكن، مثلاً، أن نقرأ، في سيرة القدّيس نيقولاوس أسقف ميرا في ليكية، أنّه لم يكن يرضع، في طفولته، يومي الأربعاء والجمعة إلاّ مرّة واحدة بعد غروب الشمس، من دون أن نفكر في الظرف والمعنى اللذين أرادهما واضعها. فمعلوم أنّ هذا المثل المذكور ليس شرطًا من شروط القداسة في تعليم كنيستنا. ومن المستحيل أن يكون قد سُجِّل شرطًا! ولست أحمّل واضعها ما لا يقوله إن رجّحت، من دون أن أنفي حقيقة الواقعة، أنّه أراد أن يعلّي هذا الصوم القديم الذي ربّما يكون من يكتب إليهم أوّلاً، قد أخذ بعضهم يهمل ممارسته. وربّما أراد أن يؤكّد أنّ الله يطلب القداسة من جميع شعبه صغارًا وكبارًا. وربّما أراد أن يقول إنّ القدّيس إنّما هو قدّيس من "بطن أمّه" (غلاطية 1: 15). فـ"كيف تقرأ؟" (لوقا 10: 26)، سؤال يفترضه كلّ نصّ مكتوب.

هذا الاعتراف يقودنا إلى اعتراف آخر، وهو أنّ المسيحيّة، في جوهرها، واحدة في غير موقع. فما يطلبه الله إنّما يطلبه من كلّ إنسان انتسب، في المعموديّة، إلى جماعته. لا أريد أن أذكّر بما هو معروف، وهو أنّ الرهبنة نشأت في منتصف القرن الثالث، أي أنّ المسيحيّة عاشت مائتين وخمسين سنة قبل أن تعرف راهبًا واحدًا فيها. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ معظم المسيحيّين الأوائل كانوا يفهمون أنّ حدّة الكلمة الإلهيّة وجدّتها يطلبها الله منهم جميعًا، أي كانوا، إذا جاز التعبير، يحيون كرهبان، رهبان قبل أن تظهر الرهبنة. وظهرت الرهبنة. وكان ظهورها خيرًا للكنيسة الفتيّة التي رَحِمُها لا تنضب. ظهرت "صوتًا صارخًا في البرّيّة". ظهرت شهادةً نقيّةً للملكوت الآتي. شهادة، وإن كان الملكوت واحدًا، لا تحاكيها شهادة. شهادة لا تستقيم قلوبنا إن لم نعترف بحقّها وضرورتها وما تركه أربابها من أدب مبرور وخبرة راضية وقداسة صارخة. وفي سياق استكمال الاعتراف، تحدونا دواعيه على أن نذكر، أيضًا، أنّ الأدب الرهبانيّ القديم جعل تلاقيًا خيّرًا بين البرّيّة والمدينة، تلاقيًا دفع صوت الله إلى أن يرى رهبان حقّه المبرور على وجوه أناس عوامّ (مثالاً على ذلك ما أعلن للقدّيس أنطونيوس الكبير، بعد أن أمضى تسعين سنة في النسك: "إنّ في المدينة رجلاً يضاهيك. إنّه طبيب، يعطي ما يفيض عن حاجته إلى الفقراء المحتاجين، ويرنّم، اليوم كلّه، نشيد الثالوث مع الملائكة")، ودفع، تاليًا، أشياع الحقّ إلى أن يقصدوا الأديرة، ليطلبوا "كلمة حياة". وفي سياق تأكيد هذا التلاقي، لسنا نرى مانعًا من أن يتحزّب شخص لخياره. فهذا من مقتضيات الصدق الواجب. من حيث إنّ دعوتك أن ترى الحقّ كلّه في اختيارك. ولكن، لا أحد منطقيًّا يقدر على أن يحصر الخلاص بخيارٍ من دون آخر. فإن كان من الواجب، مثلاً، أن يقول راهب إنّ "خلاصي" في الرهبنة، وكاهن في الكهنوت، وعامّيّ في الحياة الزوجيّة (التي هدفها القداسة، فلنذكر!)، فمن غير المقبول أن يقول أحد إنّ الخلاصَ قائمٌ في النهج الذي اخترتُهُ فحسب. هذا نوع من التطاول الذي يوحي أنّ ثمّة موقعًا في الجماعة يخلو من الخطايا!، أو أنّ ثمّة موقعًا أطهر من سواه. وموقعنا، في أيّ موقع كنّا، هو مسيح الله الذي عليه، وحده، تبنى الحياة الجديدة وما تتطلّبه من وعي وجهاد وسعي دائم. أو نكون قد شوّهنا المسيحيّة برُمّتها!

لا يستطيع أحد أن يلغي التاريخ، ولا سيّما إن كان طيبه يتضوّع في الحاضر. لكنّ الحقّ يفرض علينا أن نبيّن ما نستشفّه من الإرث الرهبانيّ القويم، وأعني أنّ الرهبنة الحقيقيّة لا تقوم على نظام العدد. فمضمونها أهمّ بكثير من أن "يزدهر" هذا الدير أو ذاك بعدد من الرهبان كبير، وإن كنّا نرجو أن يحدث هذا كثيرًا. مضمونها أنّ من يطلبها يبيّن أنّه قرّر أن يؤكّد، بطريقة أخرى، انتسابه إلى ملكوت الله الأخير. أي أن يعلن، مذ تطأ قدماه أرض الدير، أنّه، في موقعه الجديد، لن يترك شؤون هذا العالم تتعاطاه. إنّه نوع من التخصيص الذي يسعى إليه الطالب، حرًّا، في هذه "الحركة" المجدِّدة. وهذا، الذي هو معنى الازدهار، ثابتٌ في النذور الرهبانيّة التي تطلب، أوّل ما تطلب، "العفّة (البتوليّة) والطاعة والفقر والصبر". وهذه، في الواقع، إن هي سوى تفصيل لما نقرأه في كتابنا عمّا فعله تلاميذ الربّ الأوّلون، أي قوله فيهم: "وتركوا كلّ شيء، وتبعوه" (لوقا 5: 11). وإذا دقّقنا في ما قاله مفسّرو كنيستنا الكبار في هذا القول، لا يفوتنا أنّهم رأوا أنّ معناه أنّ التلاميذ إنّما أرادوا، بما فعلوه، أن يربطوا مصيرهم بمصير مَنْ دعاهم. هذا هو النذر مهما فصّلناه وعدّدناه. فأنت، في كلّ ما تفعله، ترجو أن يرضى الله عنك، ويقبلك، فيما تتمثّل بابنه الوحيد. وبهذا المعنى يجب أن نفهم قولة توما الرسول: "فلنمضِ نحن أيضًا، لنموت معه" (يوحنّا 11: 16). وهذا، واقعيًّا، هو الدافع الأساس الذي جعل أنطونيوس الكبير، أبا الرهبان، أن يخرج إلى الصحراء. لقد أراد، بعد أن رأى أنّ الناس في رعيّته يختلف سلوكهم عمّا حدّده إنجيل الله، أن يقول، بطريقة جديدة، ما قاله توما والتلاميذ الآخرون. وتبع أنطونيوس شبّانٌ عديدون. ولست بمعتقدٍ أنّ من تبعوه، في طريقته (مهما يكن عددهم)، قد زادوا شيئًا على قوّة الموقف وحقّه.

من معاني الترك أن يعرف المرء ما يجب أن يتركه. لست، بهذا، أحدّد عمرًا. لكنّي أبيّن المبدأ الذي يفترضه معنى الآية التي ذكرناها. ويعرف قرّاء إنجيل لوقا، مسجّلها، أنّ التلاميذ تركوا كلّ شيء، بعد أن رموا ثانية، "بناءً على قول يسوع"، شباكهم في بحيرة جنّاسرت، "فأصابوا من السمك شيئًا كثيرًا جدًّا" (5: 4- 6). وهذا معناه الواقعيّ أنّهم تركوا بعد أن اغتنوا. لوقا، من بين الإنجيليّين الآخرين، يشعرنا، وحده، بأن ثمّة علاقة بين يسوع والتلاميذ قبل أن يختاروا أن يربطوا مصيرهم بمصيره. أراد أن يبيّن، بأسلوبه، أنّ الربّ يستحقّ أن نترك كلّ شيء من أجله، أن نترك ما هو لنا حقًّا. لا أحد يترك ما ليس له، أي ما لا يملكه. الترك شرطه العامّ الامتلاك قبلاً. ولا يعني هذا أن يختبر المرء خطايا الدنيا، ليتخلّى عنها. فتجنُّب الخطايا أمرٌ لا يبحث في حقّه المسيحيّ الورع. لكن أن يترك ما هو شرعيّ. الترك، هنا، يفترض أن تترك ما تشعر بأنّه يمتلكك، أو يكاد. وعلى هذا الأساس يقوم مقتضى الحياة الرهبانيّة. فهذه لا يقبل حقُّها أن يطلب اعتناقَها مَنْ لم يفهم سرّها، أو أشخاص ينطبق عليهم قول رسول الأمم: "وإنّي، أيّها الإخوة، لم أستطع أن أكلّمكم كلامي لأناس روحيّين، بل لأناس بشريّين، لأطفال في المسيح، قد غذوتكم باللبن الحليب لا بالطعام، لأنّكم ما كنتم تطيقونه، ولا أنتم تطيقونه الآن" (1كورنثوس 3: 1 و2). ولست، بهذا الاقتباس، أقصد أحدًا معيّنًا. فعندي، إنّ ما يتضمّنه ينطبق عليّ. وإن رأى بعضٌ أنّه يخصّهم، فأعتبر نفسي "أنا أوّلهم". وهل نحمّل "الترك" ما لا يقصده إن قلنا إنّ من معانيه المنجّية أن يرتفع المؤمن بالله فحسب؟ فإن لم تترك، بهذا المعنى، الخطر في موقفك أنّك قد تكون تفهم ما هو موجود في الكنيسة دنيويًّا، وتتعاطاه دنيويًّا. فمن الوَهْم أن نستبعد الإغراء عن الأطر الكنسيّة. إذ إنّ كلّ ما في الكنيسة يغري إن جعلناه هدفًا بحدّ ذاته، أي إن لم نصل به إلى الله. والثابت أنّ هذا ما تعنيه حكمة الشيوخ عندما يمنعون، مثلاً، المريدين الجدد من المبالغة في النسك. يريدونهم أن يروا الله، أوّلاً، في كلّ ما يطلبونه، أو يُطلب منهم، قَبْلَ أن تشتدّ سواعدهم، ويفهموا كلّ شيء.

لست أزيد شيئًا على المعروف إن قلت إنّ تراثنا لم يجعل مقابلة بين الكهنوت والرهبنة. فالكاهن يختلف عن الراهب، وإن جُعِلَ بعض أهل الأديرة كهنة. الكاهن يختاره الأسقف، أو شعب الله. ويجوز، موضوعيًّا، تشجيع العامّيّ على الكهنوت إن ظهر ينفع الكنيسة في هذه الخدمة، أي إذا "دعاه الله كما دعا هارون". أمّا العوامّ، فلا يجوز تشجيعهم، كيفما كان، على الانخراط في الرهبنة. أقول كيفما كان، وحسبي أنّ ثمّة من يجب تشجيعه، وأعني مساندته، إذا قرّر، بحرّيّة تامّة، أن يختار طلب التوحّد بالله، أي إذا ظهرت ملامح حبّه للترك في تردّد متكرّر على الدير واختبار حياة أهله، أي إن رُئي راهبًا "من بطن أمّه". ولا ضرورة للتأكيد أنّ خبرة رئيس الدير، أو الأب الروحيّ، في هذه المساندة، لا توازيها خبرة. وكلمته هي الفاصلة، ولو أتى العامّيّ تشجيعٌ من هذا الأخ أو ذاك، أو من الجماعة كلّها.

هذا كلّه يبيّن أنّ الانتساب إلى الرهبنة، كما هي، لا يكون بالشوق، بل بالفعل. قد يُفهم أن يحيا أحدٌ، له موعد مع الذهاب إلى الدير، على طريقة الرهبان. هذا، معروفًا ومقبولاً، يقرّره وأباه الروحيّ وحدهما. ولكن، أن يزداد بين العوامّ عدد الذين يطيلون سبّحاتهم ويزيّنون معاصمهم بها، والذين لا يستحمّون إلاّ نادرًا، والذين يظهرون التقوى في وسط الجماعة خارجيًّا، والذين يتباهون بانتسابهم إلى أبيهم الروحيّ، والذين يعدّون السهرانيّات التي شاركوا فيها، أمر يحتاج إلى وقفة تأمّل، ولا سيّما أنّ الأدب الرهبانيّ ذاته يأبى كلّ تصرّف يشبه ما ذكرنا. فقد علّمنا أبونا البارّ يوحنّا السلّميّ، في موضوع الصلاة مثلاً، أنّه: "إذا اتّفق حضور آخرين معنا وقت الصلاة، فلنرتسم شكل صلاتنا وارتفاعها إلى الله في داخلنا دون إظهاره. أمّا إذا لم يحضر أحد من خدّام المدح والإطراء (وأضيف: والضعفاء والمستهزئين)، فلنعبّر عن ابتهالنا في هيئتنا الخارجيّة أيضًا، لأنّ الذهن عند غير الكاملين كثيرًا ما يتمثّل بالجسد" (السلّم إلى الله 28: 23). ولقد قرأنا، في الأدب النسكيّ، أنّ شابًّا صادف أحدَ الآباء الروحيّين (ذهب عليّ اسمه)، وقال له: "لقد رأيت ابنك الروحيّ في السوق". فأجابه: "أنا أعرف من هم أبنائيّ"! هذا كلّه يثبت أنّ المسيحيّة، التي تأبى كلّ تمظهر وتفاخر فارغين، هي مذهب قلب! لست أقول هذا بهدف الازدراء أو الإدانة. حاشا! ومن أنا، لأفعل. بل أقوله على سبيل التذكير الأخويّ. أقوله من أجل دوام مسلك صحيح. أقوله، وقلبي يصدّق أنّ الإخوة، الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، يحبّون الله فعلاً، ويريدونه أن يظهر وحده.

هل تعاطينا، في هذه السطور، المحظور؟ ليس في الكنيسة أمر يُحظَّر الكلام فيه. إن ابتغينا الأمانة لإرثنا (أليست الرهبنة من إرث الكنيسة؟) وجب علينا أن نتكلّم في كلّ ما يخدم خير كنيستنا ونموّها وازدهارها. لقد كان فضل النهضة علينا أنّها دعت، في تاريخنا الحديث، إلى إعادة إحياء الحياة الرهبانيّة. وسيبقى رجالُها دعاةَ طهرٍ في زمان الناس. الحياة الرهبانيّة القويمة ذخر أبديّ. جوّها وجوهرها أنّها تمجّ كلّ "حميّة على غير معرفة"، وكلّ طارئ لا علاقة له بالأصل. من يقرأ التاريخ، يعرف أنّ أكثر من دافعوا عن الحقّ كانوا من مستوطني الأديرة. هذا فخرنا إن أردنا أن يفتخر بنا المسيح في يومه القريب. وعلى رجاء أن يزداد حبّنا لله في من خصّوه بثمرة قلوبهم، نسأله أن يبعد عن صفوفنا كلّ جدل وكلّ ما يوحي بجدل، ونسأله، بالأخصّ، أن يبقى الجسم النهضويّ دعمًا لكلّ ما فيه مجده.

- مجلّة النّور، العدد التاسع، ٢٠٠٦
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content