الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

تمهيد

            ليست هذه الأوراق مذكّراتٍ يوميّةً بالمعنى المألوف للكلمة، بل جلّها مشاهد تحرّكت أمامي، على امتداد العام الـ2011، يومًا فيومًا، أي جلّها أضواء أخويّة، أشعرتني بأنّ الله يبثّها في انطلاقتها، أو يحتضنها في مخابئها قَبْلَ أن يرتضي لها أن تُعلن. فوسّعت لها قلبي ثمّ أوراقي. وإن قلت جلّها، فتمهيدًا لما سيصادفه قارئ، كان في رحم الكتابة مفترَضًا، من أفكارٍ بعضُها آراء من النوافل القول إنّها تقنعني، وأخرى أهدتني إيّاها بعض المواسم الكنسيّة الموقّعة في تاريخنا، وأخيرة خواطر معظمها تذكّر بحقّ الأخوّة.

            هذه كلّها أقنعني بعض إخوة مقرّبين بأن أشارك فيها إخوةً أعرفهم أو لا أعرفهم.

            أمّا عن الآراء، فيعنيني أن أوضح أنّه لم يخطر ببالي أن أنشرها كما لو أنّني أريد أن ألزم أحدًا من إخوتي، وسوى إخوتي مِمَّنْ قد تقع هذه الصفحات بين أيديهم، بما ربّما لا يقنعه. فكلّنا نعلم بأنّ ثمّة آراء، تقنعك، لا تقنع آخرين، بعضًا أو كثيرين. الناس، إن حفظنا أمر العقيدة الملزمة، أحرارٌ في سواها. هذا لا يمنعني من أن أرجو، متى التقطت عينا قارئ رأيًا يأباه في هذه الصفحات، أن يصبر على مُدوّنه أوّلاً، وأن يحاول، تاليًا، التبصّر فيه قَبْلَ أن يرميه بعيدًا منه، أو يرمي هذه الأوراق كلّها.

            هل أسجّل، في هذا التمهيد، أي قَبْلَ القراءة، اتّفاقًا أرجو أن يُقبل؟

            لا أراني أهتك سرًّا إن اعترفت، علنًا، بأنْ ليس من أمر، في هذه الحياة، يفتن لبّي، يفوق أمر كلمة الله التي ترتسم على وجوه الناس. هذه تدفعني إلى أوراقي، وتأمرني بأن أنقلها. تدهشني هذه الأميرة الحلوة التي تأبى، في طبيعتها، أن تبقى في دفّتَي كتاب. وكلّما رأيتها تمشي أو تعدو أو ترقص، تتحرّك أوراقٌ أحفظُها في جيب ثوبي، وتترك للكلمة أن تكتب ذاتها بذاتها. ولست، بهذا التدوين المنقول، (فليلاحظ القارئ)، أطمح إلى أن أعيد الكلمة إلى أوراق أخرى، بل أن أرجوها أن تستريح قليلاً يفترضه نقلها، لتعود، في مَنْ يقبلونها أحرارًا، إلى مشيها وعدوها ورقصها!

            هذا، عندي، جوهر المسيحيّة كلّها. ولست، بقولي عندي، أبتدع أمرًا غير مألوف. فما هو غير مألوف، في المسيحيّة، أن تبقى الكلمة حروفًا يُكتفى بقراءتها أو شرحها. بمعنى أنّ الكلمة، على أهمّيّة قراءتها وشرحها أبدًا، شأنها الراهن أن تتجسّد، أي أن تغدو وجوهًا من نورها. وإكرامًا للكلمة التي تستحقّ كلّ الإكرام، حاولت، في ما دوّنته، أن أخفي معظم أسماء الإخوة الذين أضاءهم نورها. فهم، قَبْلي، أعتقد أنّهم يفضّلون هذا الإخفاء الذي يدلّ على الله. أليس شأن الكلمة أن تدلّ على الله؟ وأمّا الأسماء القليلة التي وردت أو أوحى تدوين مشهد بها، فذكرها، علنًا أو إيحاءً، لا يبتعد عن الهدف الذي ذكرته. فثمّة أسماء يفرض نورها عليك في غير سياق. وإن اعتقد أحد أنّني، في كشفها، أودّ أن أكبر بها، فأبدي، في هذا التمهيد، موافقةً كاملةً على هذا الاعتقاد. فهذا، يوافقني ويفرحني، لا يعني أنّني لا أكبر بِمَنْ حجبت أسماءهم. فمن دون تواضع مزيّف، كلّ الذين أنعشتني أنوارهم فدوّنتها، بهم أكبر أيضًا.

            دائمًا، اعتقدت أنّ ما يريده الله أن يُعرَف لا يخصّ إنسانًا وحده. إن كان اللهُ نفسُهُ يخصّ الكلّ، فما يريدنا أن نعرفه عنه لا بدّ من أنّه يخصّ الكلّ أيضًا. هذا، فحسب، هو الذي أراه يشرّع لي أن أكشف ما ربّما لا يودّ بعضٌ أو كثيرون أن أكشفه. وإن كان ثمّة مَنْ يخالفني في ما أقوله هنا، فأطلب السماح منه ومن الله الذي يريدنا أن نتعلّم أموره، ونبرّز فيها قولاً وفعلاً. ولا أتراجع عن طلبي إن ركنت إلى قول الرسول: "ولكن، مَنْ أحبّ الله، فهو الذي عرفه الله" (1كورنثوس 8: 3)، ورأيت أنّ ما قاله لا يمنعنا من أن نستجدي الله أن يعرّفنا به من طريق إخوتنا، لنحبّه فيهم أيضًا.

            لا بأس إن ذكرت أنّه أتاني، يومًا، أخ، أمورٌ كثيرةٌ فيه تقيمني في غبطة وشكر، وانتقدني، وجهًا بوجه، على نصّ منشور كان يحكي عن وجوه أعتقد، اعتقادًا راسخًا، أنّها من نور. وعندما أجبته، لعلمي أنّه مأخوذ بأسلوب التعليم الأكاديميّ، "ألا ترى أنّ هذا أسلوب تعليم أيضًا؟"، ردّ جوابي ردًّا كلّيًّا. ولا أتابع ردّي عليه، في هذا التمهيد، إن رأيت أنّ التعليم الكنسيّ لا يُحصر بأسلوب دون آخر. أجل، أعتقد، بتواضعٍ أيضًا، أنّ هذه الأوراق قد تنفع للتعليم، أو فالأقل ما تفترضه هشاشتي في غير أمر، أي: تنفع للتذكير. ولا يغيّر اقتناعي بهشاشتي أن أقول إنّني كما لو أنّني ولدت أعرف أنّ ما تسلّمناه قويمًا، ينفعنا أن نتعلّمه كثيرًا جدًّا، أتانا كلّه "دفعةً واحدة". كلّ ما يفعله الناس، الذين قبلوا انهمار المسلّمات عليهم، يردّدونها، أو ينقلونها بألوان منها. هذا هو حالهم فحسب.

            هل تراني أدافع عن نصّ قَبْلَ أن يصبح مُلكًا عامًّا؟

            لا أرى، في هذه المدافعة، عيبًا.

            ثمّ يمكن القارئ أن يلاحظ أنّ هذا التدوين شارك فيه إخوة عديدون. ولا أقصد بعضَ إخوة طلبت منهم المساعدة في أوقات كنت أشعر فيها بأنّ عينيَّ تعميان عن المشاهد المربّية، ولقّنوني بعض ما نفعهم، بل كلّ الذين دخلوا على هذه الصفحات، دخولاً فاتحًا أو خفرًا، هم، لعمري، شركاء فيها. أمّا ما اعتنيت بوضعه وحدي، فهو ما ذكرته عن الآراء. حتّى الأفكار التي تأتي بها المواسم أو المواقف الكنسيّة مثلاً، أو الخواطر التي قلت إنّها تذكّر بحقّ الأخوّة، فأحسب أنّ مَنْ لقّنوني إيّاها، في هذه الحياة التي اخترتها، هم شركائي في تدوينها أيضًا، أو فلأقلْ كلامًا يوافق: إنّني قد سلبتهم إيّاها!

            هل تراني أقوّي نفسي بِمَنْ أعرف أنّهم أجدر منّي في كلّ شيء؟

            كلّ ما ينبض فيَّ يوافق على ذلك. ولا أؤكّد نفسي إن ذكرت، استكمالاً، أنّ إخوتي في المسيح أرضعوني أن نطمح، في غير أمر نافع، إلى أن يكون عملنا جَماعيًّا. هذا فهمته دربًا موافقًا إلى إعلان المجد لربّ المجد.

            هل يعيبني أن أدعو إلى أسْر الفرديّة في قلعة حصينة إلى الأبد؟

            لا أعتقد. فالخير كلّه أن نبقى نذكر أنّنا أعضاء في كنيسةِ إلهٍ مات، ليجمعها، ويوحّدها.

            إلى هذا، أرجو أن يرى القارئ، في هذه المنمنمات اليوميّة، إثباتًا على أنّ الله ما زال يحتضن ترابنا. هذا دليلي القاطع إلى نفسي أنّ الحياة، التي نحياها، هي موطن للجِدّة.

            لا أريد أن أزيد رأيًا في هذا التمهيد. لكن، هل هو رأي أن نعتقد أنّ حياتنا كلّها تفقد معناها إن لم نتعلّم أن نتلمّس بصمات الله في الكون؟

            لعمري، لا أتفلسف على واقع متعب إن ذكرت أنّ للملتزمين أحزانًا متنوّعة. عرفوها واعترفوا بها، أو لم يفعلوا. وأفتكها هذه الفرديّة المتعبة التي لا تضرب الكسالى والذين أبعدوا أنفسهم عن حياة كنيستهم فحسب، بل بعض الذين يؤمّونها أيضًا. ومنهم وإليهم، ترى مَنْ يضعون للجماعة أسوارًا عاليةً تفقدها امتدادها الذي منها! فالجماعة هي أن تعتقد أنّ الله هو رأس جسده، أي كنيسته الكونيّة.

            لا أعتقد، ولا يعنيني أن أعتقد، أنّ ثمّة التزامًا واعيًا يشجّع على الانغلاق. المنفعة، أجل المنفعة، قد يهديك إيّاها أيّ إنسان، أجل أيّ إنسان. وأنت شأنك، واعيًا، أن تنتظر، في غير وقت ومن أيٍّ كان، هداية المنفعة. كما نظر التلاميذ إلى سيّدهم "صاعدًا بمجد" إلى السماء، إيمانك بأنّه باقٍ هنا يجب أن يعلّمك أن تنظر إلى وجوه الناس، كلّ الناس، لتستلم هدايا روحه الحيّ! يجب، إن كنّا نبتغي غنى قلوبنا، أن نحذر صنمَ أن ننتظر الربّ أن يكلّمنا من فوق السحاب. وجوه الناس سحابه وصوته.

            هذا يدفعني إلى أن أرتدّ، ولو سريعًا، إلى ما قلته عن أنّني أكبر بالناس، كلّ الناس. فالمسيحيّة، التي تدعونا إلى أن نفتقر إلى الله لنغتني به، إنّما تريدنا أن نبيّن فقرًا كاملاً إلى أيّ إنسان أيضًا. قولة الرسول "فقراء، ولكنّنا نغني كثيرين" (2كورنثوس 6: 10) تنطبق على كلّ إنسان، أسواء أدرك ما جعله الله فيه أم لم يدرك! فالإنسان "هيكل للروح القدس"، قرارٌ اتّخذه الله وحده. ولذلك، إذا أوضحت أنّني، مدوّنًا منمنماتٍ أقنعتني، قد مددت يدي نحو وجوه من خارج كنيستي، لا أحسب هذا خروجًا على غنى كنيستي الذي أعتقد أنّه كامل. فإيماني بأنّ الكنيسة المنتصرة والمجاهدة هي واحدة، يسمح بأن يُستدرّ النور من وجوهٍ كَتَبَ لها الربّ، بدمه، حظّ أن تكون أعضاء في جسده!

            قَبْلَ أن أنهي هذه السطور التمهيديّة، لا بدّ لي من أن أستبق قراءة صفحات، دُوّنت يوميًّا، بسؤالي نفسي: هل، يا ترى، ثمّة قرّاء ينتظرون أن أقدّم نصيحةً أخويّةً تختصّ بأسلوب قراءتها، أي، مثلاً، أن تُقرأ، كما وضعت، يوميًّا؟ ليس لي رأي في هذا الأمر. لكنّني أنتظر، برجاء وطيد، أمرين. أوّلهما أن يلاحظ القارئ أنّ برّ الكلمة، أي معرفتها وقولها وقبولها "في وقت مقبول وغير مقبول"، هو الذي يؤهّلنا لأن نكشف غنى الإخوة الذين يحيون بين ظهرانينا. فالناس، معظم الناس، كنوز يستحيل نقبها والوصول إليها، إن لم نَطُفْ وإيّاهم بأنوار الكلمة التي هي حياتنا. وأمّا الأمر الثاني الذي أنتظره، فهو أن يذكرني كلّ مَنْ تحتضن يداه هذه الأوراق بصلاته. فهذه عبقي وحبّي. وهذه بها نجعتي التي أثق بأنّها ستمدّني براحة، في الليل والنهار، أنّى لأطفال العالم أن يلقوها في أحضان أمّهاتهم!

المؤلّف

شارك!
Exit mobile version