27مايو

تمهيد

          "الإنسان الجديد" عبارة يصف بها الرسول كلّ مؤمن لبس الربّ في معموديّـته، أي "ذاك الذي يجدَّد على صورة خالقه، ليصل إلى المعرفة" (كولوسّي 3: 10). ولقد اخترناها عنوانًا لمجموعة مقالات، تبحث في بعض آيات أو مقاطع كتابيّة، ظهرت كلُّها، ما بين العامين 2004 و2006، على صفحات نشرة "رعيّتي"، التي تصدرها أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما، للروم الأرثوذكس (جبل لبنان).

          ما سيلاحظه القارئ أنّ ما اخترنا التعليق عليه متنوّع المواضيع. وهذا التنوّع فرضه حبّ التنوّع أوّلاً، وتاليًا بعض أوضاع تزامنت والكتابة فالنشر. ولربّما يكون ما حرّكنا إلى وضع هذه الصفحات، وما يحكمها كلّها، هو الإطلالة على الصفات المبرورة التي يرغب الله في أن يتّصف بها المؤمنون، الذين تجدّدوا في معموديّتهم، أيًّا كان عمرهم أو جنسهم أو موقعهم.

          هذا يستدعي إقرارًا واثقًا بأنّ كلّ ما في هذه الصفحات من تعليم راضٍ يعود الفضل فيه، أوّلاً، إلى التربية التي اختصّت بها، في كنيستنا، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. فهذه التربية الفريدة والخلاّقة تحاكي التراث القويم بغناه المتعدّد الوجوه، ولا سيّما بعلمها وموضوعيّتها وقرارها ونهدها إلى استقرار كلمة الله في حياة المؤمنين جميعًا. فأعضاء التيّار النهضويّ، لا سيّما في الاجتماعات الأسبوعيّة التي تعقدها فرقهم، يلتفّون حول الكلمة قراءةً وتمحيصًا. وهدفهم الراهن أن يتزوّدوا من الحقّ، ويُحكموا التصاقهم في كنيستهم، ويقدروا على خدمة الشهادة لله في العالم. عصب هذا كلّه، عندهم، أن يوافقوا، في سعيهم وجهادهم، بين الكلمة والحياة. وهذا، واقعيًّا، يفوق كلّ تعامل فكريّ مجرّد. فللكلمة هدف ثابت، وهو أن تتبنّى ما أتى به تراثنا في توضيحها، وتحاول، بنعمة الله التي وُهبتها، أن تشبهها في كلّ ما تقوله، وتعمله.

          معنى ذلك أنّ أيّ مقاربة للكلمة الإلهيّة لا يمكن أن يوصلنا إلى صحّة فهمها ما لم نختر العمق، أي الاندماج في حياة كنيسة تؤمن بأنّ الجدّة تستحيل بعيدًا من معاشرة الكلمة يوميًّا والبحث عن معانيها، لا سيّما كما يقدّمها الإخوة المعتبَرون. فالعمق، كما يفيد واقعيًّا، هو أن يركن المؤمن إلى فهم الجماعة الكنسيّة، ويتبنّاه بعونها. وهذا يفترض تعاونًا. والتعاون اعتراف بأنّ الربّ سلّم جماعته "كلمته الصالحة" ومعناها في آنٍ واحد. وهذا يوحي به ما فعله سمعان بطرس في حادثة الصيد العجيب (لوقا 5: 1- 11). فإنّه، بعد أن طلب الربّ منه أن يرمي شباكه في العمق، أطاع هو وَمَنْ معه. وبعد أن "أصابوا من السمك شيئًا كثيرًا...، أشاروا إلى شركائهم في السفينة الأخرى أن يأتوا، ويعاونوهم".

          لا نريد بهذا أنّ الكلمة المسلَّمة إلى الجماعة معانيها جامدة. فَمَنْ قرأ التفاسير المبرورة، التي قيلت في مسرى التاريخ، لا يشكّ في آنيّة الكثير منها. الكلمة المفهومة هي خير تعبير عن وضوح الله ونفعه المؤمنين في غير جيل. وهي، تاليًا، سند كلّ جدّة تبتغي الاستقامة في حيّز هذا الوجود، أو تقولها بوضوح ظاهر. فمعظمنا يعلم أنّ خطر الجمود يقابله خطر أن نفهم الكلمة على هوانا. وهذا موجود في زماننا، كما كان موجودًا في غير زمن. وما يبعد الكلمة من هذا التشويه الجارح، هو أن نقارب الكلمة مقاربةً شخصيّةً على ضوء الإيمان بتراث كنيستنا الجامع والمجدّد.

          كثيرًا ما يزعج الملتزمين كنيستهم أنّ بعض المؤمنين، اليوم، يميلون آذانهم إلى كلّ تفسير من دون أيّ تمييز. وإن قيل إنّ هذا يبيّن عطشًا إلى الكلمة وفهمها، غير أنّه لا يخفي انحرافًا معيبًا في واقع الالتزام! فالعطشان لا يشرب من أيّ ماء. ثمّة ماء حيّ. وثمّة ماء ملوَّث. هل هناك إثبات أعلى من أنّ الذين انفصلوا عن التراث الحيّ قد باتوا أقوامًا (وأحيانًا قيمانًا!) متناحرة؟ الوحدة والرضا والخلاص رهن بالماء المحيي الذي يتفجّر، باستمرار، في بركات شركة "الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة".

          ما أرجوه هو أن تساعد هذه الصفحات كلّ الذين يطلبون الارتواء من ينبوع الماء الحيّ، وأن تذكّرهم بأنّ أعلى مقتضى المعاني، والبحث عن المعاني، هو الاندماج في حياة كنيستهم القويمة والقادرة على إحياء الذين يطلبون ماء الحياة الأبديّة حقًّا.

          هذا أقوله فيما أرجو، أيضًا، أن يجد مَنْ يقرأون هذه الصفحات منفعةً لهم فيها، وأن تزيدهم ركونًا إلى كلمة الله، وأن تعينهم على أن يذكروا، دائمًا، أنّهم مخلوقون "على صورة الله في البرّ والقداسة"، ليسيروا بالطاعة، ويكونوا معًا، ويكون كلٌّ منهم، هذا "الإنسان الجديد".

المؤلّف

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content