9يونيو

تكليف المعموديّة

            ماذا أرادت الكنيسة الأرثوذكسيّة من اختيار الفصل الذي يتكلّم على ترائي الربّ يسوع لتلاميذه في الجليل (متّى 28: 16- 20)، لتقرأه في خدمة المعموديّة؟

            الجواب المألوف عن هذا السؤال هو أنّها أرادت أن تؤكّد طاعتَها وصيّة الربّ القائم من بين الأموات، أي قوله لتلاميذه: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". فالمعموديّة ليست سرًّا أنشأته الكنيسة من نفسها، بل الربّ أنشأه، وأوصاها بتنفيذه. غير أنّ هذا يفترض، ضمنًا، أمرًا آخر يبيّن أبعاد الجواب. فما هو هذا الأمر؟

            لنعرف هذا الأمر، يجب أن نتذكّر أنّ خدمة المعموديّة، في الكنيسة الأولى، لم تكن تُجرى للأطفال فحسب (كما هو الحال اليوم عمومًا)، بل كانت الكنيسة تعمِّد، إلى الأطفال، أشخاصًا بالغين اهتدوا إلى الإيمان بيسوع ربًّا ومخلّصًا، وأنهوا لا سيّما إعدادهم التعليميّ. وهذا التذكّر، الذي نجد ما يؤكّده في معاني خدمة "سبت النور"، يجعلنا نعتقد أنّ البالغ يمتاز عن الطفل بإدراكه أنّ ما يُتلى، في الخدمة، يعنيه كما يعني المعمَّدين جميعًا، أو يعنيه أوّلاً. فإن سمع معمَّد بالغ، مثلاً، أمر الربّ: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم"، لا يمكنه أن يستثني نفسه ممّا سمعه، أي لا يمكنه أن يعتقد أنّ ما يُتلى يتعلّق بجماعة المعمَّدين الملتقين في سرّ المعموديّة حصرًا (الكهنة والشعب الحاضر)، بل شأنه، من دون أن ينكر أحدًا آخر، أن يرى نفسه الشخص الذي تنطبق عليه طاعة تنفيذ وصيّة المعموديّة. فالمعمَّد، طفلاً كان أو بالغًا، هو، في غاية ترتيب الخدمة، الشخص الأساس الذي تُقام من أجله. من هذه الوجهة، لا نقدر، موضوعيًّا، على أن نحصر المعموديّة بدخول المعمَّد عضويّة الكنيسة بهذا المعنى الذي يجعلها إذنًا تحدّه المشاركة في أسرارها وصلواتها (على أهمّيّة هذه المشاركة). فالمعموديّة من أهدافها الواقعيّة أن تُعلن، أيضًا، لكلّ مَن يتقبّلها أنّه مكلَّف أن يخدم رسالة الله في الأرض. فـ"اذهبوا وتلمذوا"، وإن قيلت في صيغة الجمع، يجب أن تعني أيضًا: "اذهب وتلمذ"، أو أنّ مَن يسمعها يجب أن يعتبرها دعوةً له إلى أن يشترك في خدمة الجماعة المكلَّفة نشرَ كلمة الله في العالم. هذا هو الأمر الذي علينا أن نعرفه كلّما طلبنا المعموديّة لنا أو لمَن خرجوا من صُلبنا. فمَن اعتمد، يغدو ابن الله، أي رسوله في الأرض. وما دور العرّاب، ولا سيّما إن كان المعمَّد طفلاً، إلاّ أن يبذل نفسه، ليسهم في جعل هذا الأمر واقعًا أبديًّا.

            قلنا: وإن قيلت في صيغة الجمع. ولا نريد، بهذا القول، أن نقلّل من قيمة الجماعة. فهذه الصيغة، التي تعني أنّ المؤمن يرتبط في معموديّته بجماعة المعمَّدين المكلّفين تنفيذ وصيّة الربّ بأبعادها كلّها، تعني، أيضًا، أنّه إنّما يخدم الربّ في الأرض فيما يبقى محافظًا على هذا الارتباط الملزِم. وهذا يجب أن يفيدنا أنّ خدمة الله (في الأرض) تفترض أن يحسن المعمَّد معرفة تعليم كنيسته، وأن يسلك بموجب ما يحسنه دائمًا. فالمعموديّة ارتباط بالله القائم في جماعته. وعلى دوام هذا الارتباط يثبت التكليف.

            أسوق هذا كلّه، لأقول إنّ مَن اعتمد قيمتُهُ تنبع من قيمة الجماعة التي ينتسب إليها في معموديّته. ففي كنيسة الله، ما من أدنى فرق بين عضو وآخر. كلّنا أعضاء فيها، ولو اختلفت مواقعنا. كلّنا أعضاء، أي كلّنا معمَّدون. فالمعموديّة، التي تكسبنا العضويّة الكنسيّة، هي التي تحدّد لنا المواقع التي اختارنا الربّ لها، أي هي الموقع الذي يبنى عليه كلّ موقع. ومع محافظتنا على النظام والترتيب، هذا يمنعنا من حصر الخدمة في بعضٍ، أيًّا كانوا (الكهنة مثلاً). إن كان الربّ قد أمر المعمَّد بأن يذهب (واللفظة من معانيها عدم حصر الالتزام في جدران الكنيسة) ويتلمذ (واللفظة تفترض أن ينقل علمه بمسلّمات الإيمان إلى كلّ مَن يجهلها أو يهملها)، لا يمكننا أن نخفّف من قيمة هذا الأمر، مهما كانت دوافعنا وحججنا. لا يعني هذا أنّ المعمَّد يمكنه أن يطلب لنفسه موقعًا لم يُعْطَ له، بل يعني أنّ واجبه الأعلى أن يعلن للملأ حبّه لله. هذا لا يعوزه أن يندرج في نظام وترتيب. هذا هدف كلّ نظام وترتيب.

            إنّني، ككثيرين، أعرف أنّ كتابة هذه السطور تأتي في زمان قلّ فيه الملتزمون القادرون على أن يبوحوا بحبّهم لله. ولكن، حتّى لا يحسب أحد أنّنا، بما نقوله هنا، نبكي على الأطلال، لا بدّ من أن نؤكّد، بشدّة، أنّ الشهادة لله لا تحتاج، واقعيًّا، إلى عدد من الناس كبير. بلى، طموح الشهادة أن تحتلّ محبّة الله العالم كلّه، "حتّى إذا كثرت النعمة عند عدد أوفر من الناس، أفاضت الشكر لمجد الله" (2كورنوثس 4: 15). وهذا الطموح الممكن دائمًا يفترض، بالضرورة، أن نُطلق المحبّين القادرين على كشف الحقّ، أي ألاّ نكبّل المحبّة بحجج واهية. فللأسف، ثمّة مَن يكبّلون المحبّة، ولا سيّما منهم مَن يحكم الشهادة لله بمرورها عبره. وإن قلنا أعلاه إنّ إعلان حبّنا لله هو هدف كلّ نظام وترتيب، فنقول، هنا، إنّ مَن يكبّل الشهادة، بأيّ شكل من الأشكال، يخرق النظام والترتيب، أي ترتيب الله الذي نظامه أن يُشهد لمحبّته "حتّى أقاصي الأرض".

            على حزننا من بعض ما يجري هنا وثمّة، لا نريد أن ننهي هذا المقال بانفعال جارح، بل أن نرجو أن يذكر المعمَّدون أنّهم أبناء الله الأحرار. لقد قال الله لهم جميعًا، أي لكلّ واحد منهم، بصوته الحلو: "اذهبوا وتلمذوا". فاذهبوا. وإن سألكم أحد مَن كلّفكم، قولوا بهدوء المحبّين: جرن المعموديّة.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content