22يناير

الوجه لا يُحتكَر

لا يمكننا أن نجزم إن كانت دعوة بولس إلى أن يقتدي أهلُ كورنثوس به (الرسالة الأولى 11: 1)، توبيخًا على تقصيرٍ منهم عرفه. ربّما كانت توبيخًا إلى بعض، وإلى آخرين حثًّا على دوام فعل الخير. فالتعليم الرسوليّ تعليم رعائيّ يراد منه تثبيت الناس في المجد، قائمين فيه أو تائبين إليه.

في كلّ حال، استطاع بولس أن يقدِّم نفسه إيقونةً بقوله: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح". وهذا قاله، توًّا، بعد قوله: "فإنّي أنا أيضًا أجتهد في إرضاء جميع الناس في كلّ شيء، ولا أسعى إلى منفعتي، بل إلى منفعة جماعة الناس، لينالوا الخلاص". ويبدو، في هذا، أنّ التمثّل، الذي يرسم قولُهُ أنوارَهُ، إنّما يقوم على المحبّة المفتقرة إلى أن يغتني الناسُ، كلُّ الناس، بإلهٍ وهبهم خلاصه مجّانًا. يريدهم مخلَّصين الآن. تظهره دعوته أبًا. أبًا يحبّ أولاده جميعًا، أيًّا كانوا وكان سلوكهم. أبًا لا تهمّه نفسُهُ البتّةَ. أبًا مبذولاً. أبًا كلُّ ما يعنيه أن يعلو الناس في الحقّ. أبًا لا يعلو على أحد، بل يدنو، ليُعلي مَنْ كان دانيًا. أبًا بغية قلبه أن يصل كلّ إنسان إلى وجه ربّه. يدعو، ينادي: تعالوا إلى وجه يسوع الحلو. نتصوّره يدعو مَنْ يخاطبهم بفمٍ يرجو، وبعينَيْن دامعتَيْن، وبيدَيْن منعطفتَيْن، ورجلَيْن راكعتَيْن، وقلب رمى ذاته بين أقدامهم.

هذا، بتدقيق، يضمّ كلّ ما قاله عن حياة الشركة الأخويّة. كلّه كلّه. نسمعه، في هذه الدعوة، يقول: "صرتُ للضعفاء ضعيفًا، لأربح الضعفاء. وصرتُ للناس كلِّهم كلَّ شيء، لأخلّص بعضهم مهما يكن الأمر. وأفعل هذا كلّه في سبيل البشارة، لأشارك فيها" (1كورنثوس 9: 22). يقول دعوته فيما يستند إلى أنّ الربّ نزل حتّى أقصى قعر الجحيم، ورفعنا من انبساطنا فيها. هذه هي البشرى السارّة: كنّا في وهد هاوية، ورُفِعْنا. يقول: أنا مع الذين تحت ووراء المتخلّفين وأمام المتعَبين، لنرتفع كلّنا، ونتساند كلّنا.

نسمعه. ونشعر بأنّ كلماته تعجّ بمدّ يد العون. "اقتدوا بي"، تعني أنّني حاضر من أجلكم جميعًا، لأخدم كلّ ما يفيد علمكم بأنّ الربّ يحبّكم. تعني أنّني أعرف أنّ مَنْ أُعطي أن يخدم الحقّ لا يسأل الناس عن ضياع خيرهم، بل يضعه. تعني أنّني عالم بأنّ الله لم يبخل بأيّ شيء، لا عليَّ ولا عليكم ولا على أيّ إنسان في الكون. وتعني أنّكم قلبي وحياتي، حاضري ومستقبلي، وكلّ ما لي هو لكم. لا، لا يسأل أحدًا شيئًا، بل يتعهّد، بل يعمل، بل يعطي نفسه. كلماته ليس لها صدًى لأيّ تأفّف، لأيّ تبرّم، ولأيّ نيّة بِطالة. كلماته، حرّةً من كلّ انفعال، يعمّرها الفعل، ويظلّلها الكشف. وأوّلُ ما تكشفه أنّها تبديه يعي، وعيًا لا رجوع عنه، أنّ شأنه أن يسعى إلى أن يدمِّر، بخدمة موصولة، كلّ خطأ، يراه يضرب أهل الأرض، كلّ عرج، وكلّ هروب إلى الوراء. تكشف أنّه يعرف أنّ العمل الصالح هو سبيل ديمومة إعلان المجد لربّ المجد. وتكشفه يدرك، فيما يطلب أن يتبعه جميع الناس إلى اقتفاء أثر ربّهم، أنّ خير ما ينبغي له فعله أن يستوطن الدعاء كُرمى لهم جميعًا. دعوته نشيد يكشف أنّ وطنه دعاء يؤكّد وعيه أنّ الله، الذي رمى عليه شبكته، ما زال يحملها، ويرميها. دعاء موصول يقول، ببلاغة، إنّ الله أحقّ بالطاعة.

ثمّ تكشف أنّه يعرف، على قربه مِمَّنْ يتبعه، أنّ مصيره مرتبط بمصير إخوته جميعًا. تبديه دعوته وجهًا موجَّهًا، في آنٍ، نحو مَنْ يمشي في إثره ونحو مَنْ يدعوهم. يريدهم إلى وجه ربّهم. بكلّ ما أوتي من قوّة، من نعمة، يريدهم. الوجه لا يُحتكَر. يتحرّك بالنعمة "التي هي انحناء الله على الخاطئين". لا يقول لهم حرفيًّا: "بنعمة الله أنا ما أنا" (1كورنثوس 15: 10). ولكنّنا نسمعها هي هي. نسمعه يقول: أنا لست بشيء. النعمة هي كلّ شيء. وأريدكم أن تأتوا إلى ربّكم، لئلاّ تذهب النعمة، التي عليَّ، سُدًى. افهموا أنّي لن أخلص من دونكم. هذا وهْم لا أقبل أن يتسلّل إليَّ. تعالوا. ماذا أفعل، لتفعلوا؟ أرجو! ها أنا أرجو. أنحني! ها أنا أنحني. أستجدي! ها وجهي إلى الربّ وإليكم وإلى الأرض. ماذا أفعل بعد؟ لا تقطعوا عليَّ الطريق برفضِ أيٍّ منكم. ها أنا أمشي، فادفعوني، بقبولكم جميعًا، إلى أن ألتصق بِمَنْ أمامنا.

اقتدوا بي، ليس فيها أيّ رنّة محاباة، بل تعجّ بعنفوان الحبّ الذي يعرف أنّ الإنسان، وإن خاطئًا، يبقى له موعد مع الجدّة. الإنسان، كلُّ إنسان، قيمة، تقول دعوته. إنّها قولة سكارى فعلاً! مجانين كلّيًّا! بولس يبدو فيها رجلاً جنّنه مسيحٌ ما زال يراه يمشي، ويدعو. يراه كلّه حركة. حركة لا تتوقّف، لا تملّ، لا تتعب. حركة يريحها أن تتعب. حركة إله غلاّب كلّ ضعف، كلّ تلكّؤ، وكلّ شرّ طارئ أو مستحكم. عبارة هي؟ لا، لعمري، بل قصّة. قصّة إله اختار أن يلزم دروب وجودنا، ليدعونا إلى أبيه. قصّة تحكي أنّ الربّ باقٍ معنا وفينا. بولس، بتردادها، يصدّ كلّ تسرّب قد يوحي بأنّ مسيح الله قد ارتحل. يقول، بثقة، إنّه فوق (في السماء) وهنا (على الأرض). إنّه ما زال هنا. أنا أراه أمامي. ها هو يمشي، الآن، يدعونا جميعًا إلى أن نمشي وراءه. ها هو يمشي كما كان يمشي على طرقات الجليل الأولى. خارطة خلاصه ما زالت هي إيّاها. يريد تلاميذ له. يقول: إيّاكم أن تعتقدوا أنّ مَنْ سمعوا دعوته أوّلاً كانوا، قَبْلَ أن يقبلوها، أفضل منكم. الربّ لم يأتِ، ليدعو أبرارًا. البرّ تنجبه الطاعة. انظروا، ها أنا أمشي وراءه. "أنا أوّل الخطأة". انظروا، إنّه لا يردّني. مَنْ مات عنّا، لا يردّ أحدًا. يريد الجميع. تعالوا، لنمشي، معًا، وراء مَنْ ما زال يمشي أمامنا.

الإيقونة، التي رسمتها المحبّة الكاملة، هي التي تأتي، وحدها، بأناسٍ كثيرين إلى المجد.

- مجلّة النّور، العدد الأوّل، ٢٠١١
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content