بدأ لقائي به بسؤالي إيّاه: "يا معلّم، ماذا أعمل، لأرث الحياة الأبديّة؟". لم تكن نيّتي صافية. سمعني. وعرف مَنْ أكون. فنحن علماء الشريعة، أي الكتبة، أنسّاخًا كنّا أم مستشارين قانونيّين أم نتعاطى الأمرين بآنٍ، نربط، دومًا، إلى أذرعنا وجباهنا، العصائب المكتوبة التي يضعها شعبنا في أثناء الصلاة حصرًا. وردّ يسوع، عارفًا مَنْ أكون إذًا، على ما سمعه منّي بسؤال آخر. قال: "ماذا كُتب في الناموس؟ كيف تقرأ؟". لم يشعرني بأنّه علم بنيّتي. فبيّنتُ له معرفتي معانيَ الكتب ببراعة ورثتُها وأترابي الكتبة منذ أيّام عزرا الكاتب (أنظر: نحميا 8). قلتُ له بثقة ظاهرة: "أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك ومن كلّ ذهنك، وقريبك كنفسك". جمعتُ له الوصايا في اثنتين (قابل مع: تثنية 6: 5؛ وأحبار 19: 18). وفي هذا الجمع، تجاوزتُ المألوف. فما من أحد، أعرفه، كان يضع هاتين الوصيّتين في مرتبة واحدة. أمّا هو، فأثنى على ما سمعه بقوله: "بالصواب أجبت. اعمل ذلك، فتحيا" (لوقا 10: 25- 37).
بدا أنّه اكتفى بما قاله لي. سؤالٌ ردّ عليه، وانتهى. هل اعتبر أنّني لم أكن جادًّا في سؤالي؟ هل يمكن أن يكون قد عرف ما في داخلي؟ لا أستطيع أن أجزم. كان ما قاله وقلتُهُ، إلى الآن، يتعلّق بالتزامنا كتبنا المقدّسة حصرًا. كلانا لم يخرج عنها. قلتُ، في نفسي، أزكّي (أبرّر) نفسي، لربّما لن أُعطى فرصةً أخرى تحقّق لي مأربي. يجب أن أحرجه. فسألتُهُ: "وَمَنْ قريبي؟". العلماء مثلي، وحتّى الأمّيّون، لا يشكّون في أنّ هذا سؤالٌ لا يُسأل. كلّ الناس، كلّهم من كبيرهم إلى صغيرهم، يعرفون أنّ القريب هو أيّ عضو من أعضاء شعبنا، فقط لا غير. فنحن قوم لا نولي الغريب أيّ أهمّيّة، وتاليًا لا يمكننا أن نحبّه كما نحبّ أنفسنا وأقرباءنا. وأنا قد سمعتُ عن يسوع أمورًا تبديه لا يلتزم ما نلتزمه كلّنا بأجمعنا. ألم يُسمع، مثلاً، أنّه أرسل بعضًا من أتباعه، ليعدّوا زيارته للسامرة؟ هذا أمر صدمني وكثيرين آخرين. صحّ أنّ السامرّيين رفضوا أن يستقبلوه "لأنّه كان متّجهًا إلى أورشليم". لكن، صحّ، أيضًا، أنّه أبدى رغبةً في زيارتهم (لوقا 9: 51- 55)! فهل يُعقَل أن يفكّر معلّم يهوديّ ذو شأن، مثله، في زيارة السامريّين؟! هل هو أفضل من الحجّاج الذين يزيدون سفرهم إلى أورشليم، أو العودة منها، يومين أو ثلاثة، ليتفادوا أن يعبروا من السامرة؟ ما الذي كان ينتظره من هؤلاء الكفرة الذين اختلطت دماؤهم بدماء الوثنيّين، ولا يقرّون بسوى كتب التوراة؟ كيف كان سيبرّر العداوة التي تجمعنا بهم منذ نحو الألف سنة؟ ليس من يهوديّ واحد، في الأرض، يعتبر السامريّين بشرًا. كلّنا نعتبرهم حثالةً، ونسمّي "شكيم" عاصمتهم "سيخارة"، أي "خمّارة". وألم يُسمع، أيضًا، أنّه أبدى استعدادًا كاملاً، ليزور منزل رجل وثنيّ (أنظر: لوقا 7: 1- 10)؟
سمع يسوع سؤالي. لم أنتظر أن يقول لي: أنت معلّم شريعة، وتطرح سؤالاً لا يُسأل. ولم يقلها. كان جوابه حكايةً تظهره قرأ أفكاري، ولا سيّما ذكري، في نفسي، أنّه طلب زيارة السامريّين. قال: سامريّ كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، أي من تلك الطريق الطويلة التي تمرّ ببريّة يهوذا التي تعجّ بقطّاع الطرق. ورأى رجلاً يهوديًّا، غريبًا عنه، كان اللصوص قد ضربوه، وجرحوه، ورموه بين حيّ وميت، وعطف عليه كما لو أنّه وإيّاه نزلا من بطن واحد. وحكم حكايته بأمرين. أوّلهما أنّ السامريّ كان أفضل من كاهن ولاويّ، مرّا قرب الرجل الجريح كما لو أنّه حشرة. وثانيهما أنّه تكفّل بمعالجته حتّى النهاية!
هل أقول إنّ روايته كانت عاديّة؟ لا، لعمري، لا يمكنني أن أقول. فالرواية صعقتني! وبدا عليَّ أنّني صعقت. صعقتني، وأكّدت لي أنّه عرف ما جال في بالي. وزاد على صعقتي أنّه أعقب ما رواه بسؤاله إيّاي: "فأيّ هؤلاء الثلاثة تحسب صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟". أرادني أن أدخل فكره. صمتُّ؟ لا، لم أصمت. هل كان عليَّ أن أفعل؟ لم أقدر. وجدتُ نفسي أجيبه: "الذي صنع إليه الرحمة". فقال لي: "امضِ فاصنع، أنت أيضًا، كذلك". ردّني إلى قوله الأوّل (اعمل ذلك، فتحيا). لم يضف إلى الشريعة شيئًا. فسّر كلمته بهذه القصّة الصاعقة التي كسر فيها حواجز التفرقة بين الناس بجعله القريب كلّ إنسان! لم أشعر بأنّه برّر ما ردّدتُهُ في نفسي، أي زيارة السامرة التي أبى أهلها عليه أن يحقّقها. لكنّني أحسستُ بأنّه أرادني أن أحذو حذوه. هل أدرك أنّني قادر على أن أتبعه، فأكون واحدًا من تلاميذه؟ لا أعلم!
هذه وقائع لقائي به. كان مطلع اللقاء شيئًا ومنتهاه شيئًا آخر. هل ندمتُ على أنّني قاربتُهُ، وحدّثتُهُ؟ لا، لم أندم. فأنا لم أبتعد عن شريعتي. وتاليًا، لم أعده بشيء. فقط، وافقتُهُ على عبرةِ مَثلِهِ. هل أخطأتُ بموافقتي؟ لا أعتقد. كان مَثلُهُ حكايةً، حكايةً تُحكى! هذا الرجل غريب عجيب. لا يرى إلى ما هو الإنسان، أيّ إنسان، بل إلى ما يمكن أن يصيره. السامريّ، في مَثله، "صار قريبًا"! ربّما، أو من دون ربّما، تبجّحتُ في كلامي معه. لكنّني لا أقدر على أن أنكر أنّه، في كلّ ما قاله لي، بدا وديعًا ومتواضعًا. ذكرتُ، قَبْلاً، ما يعني أنّ الرجل أدرك نيّتي السيّئة. وأضيف، الآن، أنّه، على ذلك، ارتضى أن يكلّمني. هذا رجل يستحقّ كلّ الاحترام والتقدير. أعرف أنّ ثمّة، بين أترابي الكتبة، أشخاصًا أحبّوه. أنا لا أقول إنّ عليَّ أن أتبعهم. لكنّي، الآن، عدتُ غير قادر على أن أخطّئهم. ما سرّ هذا الرجل الذي لا يردّ أحدًا؟ من أين يأتي؟ كيف له أن يحبّ الكلّ من دون أيّ حرج؟ من أين يستمدّ قوّته؟ أسئلة، على أنّني قد تركتُهُ، لم تتركني.